مال غيره الفاضل عن حاجته لمن كَانَ جائعًا مضطرّا؛ لأنه يجب عَلَى المسلم أن يُطعمه إذا رآه جائعًا، فإذا لم يكن صاحب الطعام حاضرًا، وتضرر إن لم يأكل منه، جاز أن يأكل منْ غير استئذان؛ لأن له حقًّا فِي إنقاذ مهجته بذلك الطعام. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الاستعداء:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: وإذا استعدى رجل عَلَى رجل إلى الحاكم، ففيه روايتان:[إحداهما]: أنه يلزمه أن يُعديه، ويستدعي خصمه، سواء علم بينهما معاملة، أو لم يعلم، وسواء كَانَ المستعدي ممن يعامل المستعدى عليه، أو لا يعامله، كالفقير يدعي عَلَى ذي ثروة وهيئة، نص عَلَى هَذَا فِي رواية الأثرم، فِي الرجل يستعدي عَلَى الحاكم أنه يحضره ويستحلفه، وهذا اختيار أبي بكر، ومذهب أبي حنيفة، والشافعي؛ لأن فِي تركه تضييعا للحقوق، وإقرارا للظلم، فإنه قد يثبت له الحق عَلَى منْ هو أرفع منه بغصب، أو يشتري منه شيئا، ولا يوفيه، أو يودعه شيئا، أو يعيره إياه، فلا يرده، ولا تُعلم بينهما معاملة، فإذا لم يُعدَ عليه سقط حقه، وهذا أعظم ضررا منْ حضور مجلس الحاكم، فإنه لا نقيصة فيه، وَقَدْ حضر عمر، وأُبَيّ عند زيد، وحضر هو وآخر عند شُريح، وحضر عليّ عند شريح، وحضر المنصور عند رجل منْ ولد طلحة بن عبيد الله.
[والرواية الثانية]: لا يستدعيه إلا أن يعلم بينهما معاملة، ويتبين أن لِمَا ادعاه أصلاً، رُوي ذلك عن عليّ رضي الله عنه، وهو مذهب مالك؛ لأن فِي إعدائه عَلَى كل أحد تبذيل أهل المروءات، وإهانة لذوي الهيئات، فإنه لا يشاء أحد أن يبذلهم عند الحاكم إلا فعل، وربما فعل هَذَا منْ لا حق له؛ ليفتدي المدعَي عليه منْ حضوره، وشَرِّ خصمه بطائفة منْ ماله، والأُولى أولى؛ لأن ضرر تضييع الحق أعظم منْ هَذَا, وللمستعدَى عليه أن يوكل منْ يقوم مقامه، إن كره الحضور، وإن كَانَ المستدعى عليه امرأة نَظَرت فإن كانت بَرْزَة، وهي التي تبرز لقضاء حوائجها، فحكمها حكم الرجل، وإن كانت مُخَدَّرة، وهي التي لا تبرز لقضاء حوائجها، أُمرت بالتوكيل، فإن توجهت اليمين عليها، بَعَثَ الحاكم أمينا معه شاهدان، فيستحلفها بحضرتهما، فإن أقرت شهدا عليها، وذكر القاضي أن الحاكم يبعث منْ يقضي بينها وبين خصمها فِي دارها، وهو مذهب الشافعيّ؛ لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:"واغْدُ يا أنيس إلى امرأة هَذَا، فإن اعترفت فارجمها"، فبعث إليها, ولم يستدعها، وإذا حضروا عندها كَانَ بينها وبينهم ستر، تتكلم منْ ورائه، فإن اعترفت للمدعي أنها خصمه، حكم بينهما، وان أنكرت ذلك جيء بشاهدين منْ