رفعه إلى فيه، فقطّب، ثم دعا بماء أيضاً فصبه فيه، ثم قَالَ:"إذا اغتلمت عليكم هذه الأوعية، فاكسروا متونها بالماء"، ورُوي أنه عليه السلام، كَانَ يُنبذ له، فيشربه ذلك اليوم، فإذا كَانَ منْ اليوم الثاني، أو الثالث سقاه الخادم، إذا تغير، ولو كَانَ حراما ما سقاه إياه. قَالَ الطحاوي: وَقَدْ رَوَى أبو عون الثقفيّ، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عبّاس، قَالَ: حُرّمت الخمر بعينها، القليل منها، والسكر منْ كل شراب"، خرجه الدارقطنيّ أيضاً.
ففي هَذَا الْحَدِيث، وما كَانَ مثله أن غير الخمر لم تحرم عينه، كما حرمت الخمر بعينها، قالوا: والخمر شراب العنب، لا خلاف فيها.
ومن حجتهم أيضاً: ما رواه شَريك بن عبد الله، حدثنا أبو إسحاق الهمداني، عن عمرو بن ميمون، قَالَ عمر بن الخطاب: إنا نأكل لحوم هذه الإبل، وليس يقطعه فِي بطوننا، إلا النبيذ، قَالَ شريك: ورأيت الثوري يشرب النبيذ فِي بيت حبر أهل زمانه، مالك بن مِغْوَل.
[والجواب]: أن قولهم: إن الله سبحانه وتعالى امتن عَلَى عباده، ولا يكون امتنانه إلا بما أحل، فصحيح، بَيْدَ أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر، كما بيناه، فيكون منسوخا كما قدمناه.
قَالَ ابن العربي:[إن قيل]: كيف يُنسحْ هَذَا، وهو خبر، والخبر لا يدخله النسخ؟.
[قلنا]: هَذَا كلام منْ لم يتحقق الشريعة، وَقَدْ بينا أن الخبر إذا كَانَ عن الوجود الحقيقي، أو إعطاء ثواب، فضلا منْ الله، فهو الذي لا يدخله النسخ، فأما إذا تضمن الخبر حكماً شرعيا، فالأحكام تتبدل، وتنسخ جاءت بخبر، أو أمر، ولا يرجع النسخ إلى نفس اللفظ، وإنما يرجع إلى ما تضمنه، فإذا فهمتم هَذَا، خرجتم عن الصنف الغبي الذي أخبر الله عن الكفار فيه بقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)} [النحل: ١٠١]: المعنى أنهم جهلوا أن الرب يأمر بما شاء، ويكلف ما يشاء، ويرفع منْ ذلك بعدله ما يشاء، ويُثبِت ما يشاء، وعنده أم الكتاب.
قَالَ القرطبيّ: هَذَا تشنيع شنيع، حَتَّى يلحق فيه العلماء الأخيار فِي قصور الفهم بالكفار، والمسألة أصولية، وهي أن الأخبار عن الأحكام الشرعية، هل يجوز نسخها أم لا؟ اختُلف فِي ذلك، والصحيح جوازه؛ لهذه الآية، وما كان مثلها, لأن الخبر عن مشروعية حكم ما، يتضمن طلب ذلك المشروع، وذلك الطلب هو الحكم الشرعي، الذي يستدل عَلَى نسخه، والله أعلم.
وأما ما ذكروا منْ الأحاديث، فالأول والثاني ضعيفان؛ لأنه عليه السلام قد رُوي عنه