للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

تركها؛ لأن بلاده باردة، وأعماله شاقّة، كما يدلّ عليه حديثا ديلم، وأم حبيبة أمرٌ عامٌ، أو هما أمران عامان يقرّران قاعدتين تشريعيتين، لا يكفي فِي الدلالة عَلَى نسخهما، وعلى رفع الأمر بالقتل حادثة فرديّة، اقترنت بدلالات تدلّ عَلَى أنها كانت لسبب خاصّ، أو لمعنى معيّن إذا تحقّق ووُجد كَانَ للإمام أن يكتفي بالجلد دون القتل، وهذا المعنى الخاصّ هو تعليل عدم قتل النعيمان بأنه شهد بدرًا، ولأهل بدر خصوصيّة لا يستطيع أحد أن يُنكرها، ذكرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فِي موقف أشدّ منْ موقف الشرب فِي الرابعة، وذلك فِي قصّة حاطب بن أبي بلتعة، حين كتب لقريش، ثم استأذن عمر فِي ضرب عنقه، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه قد شهد بدرًا، وما يُدريك لعلّ الله قد اطّلع عَلَى أهل بدر، فَقَالَ: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم"، وهو حديث صحيح. رواه أحمد، ورواه الشيخان وغيرهما، أو يكون التعليل هو الذي ثبت فِي البخاريّ منْ النهي عن لعن عبد الله الملقّب حمارًا بأنه يحبّ الله ورسوله، وَقَدْ رجحنا منْ قبلُ أن عبد الله هَذَا هو النعيمان، فيكون ترك قتله هو لهذه العلّة، أو تلك، أو لأجلهما معًا، وكلاهما خاصّ معيّن، لا قاعدة تشريعيّة، فأهل بدر معروفون محصورون، ثم إنهم لن يتعلّق بهم حكم تشريعيّ دائم عَلَى الدهر مع التشريع، بل هو حكم وقتيّ خاصّ بأشخاصهم ما وجدوا، واليقين بأن شخصًا معيّنًا يحب الله ورسوله يقينًا قاطعًا يترتّب عليه حكم تشريعيّ، لا يكون إلا بخبر الصادق عن وحي منْ الله، ولا يستطيع أحد بعده -صلى الله عليه وسلم- أن يُخبر بمثل هَذَا خبرًا جازمًا يوجمب الأخذ به، وبناء أي حكم عليه، فهذا أعرق فِي معنى الخصوصيّة منْ ذاك، فلا تصلح هذه الحادثة الواحدة للدلالة عَلَى نسخ الْحَدِيث العامّ، ثم لو كانتا حادثتين لم تصلحا للنسخ أيضًا؛ لتعليل كل منهما بعلة غير مستطاع تطبيقها عَلَى معنى عموم دلالتها، كما بيّنّا.

وأما ما جاء فِي بعض روايات حديث جابر، مثل "فرأى المسلمون أن الحدّ قد وقع، وأن القتل قد رُفع"، ومثل "فثبت الجلد، ودُرىء القتل"، ومثل "فكان نسخًا"، فإن السياق فيها كلها يدلّ عَلَى أن هَذَا الكلام ليس مرفوعًا إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولا منْ قول الصحابيّ، بل إن الكلمة نفسها عَلَى اختلاف رواياتها تُشعر بأنها منْ كلام رجل بعد الصحابة، والراجح أنها منْ كلام محمد بن المنكدر، فَهِم هو منْ ذلك أن هَذَا نسخٌ، وأن القتل قد رُفع، وكذلك جاء فِي روايته المرسلة -أعني ابن المنكدر- فقد قَالَ: "ووُضع القتل عن النَّاس".

قَالَ: فيكون ادّعاء النسخ قولًا منْ التابعيّ، لا حديثًا مرفوعًا، وليس هَذَا بحجة عَلَى أحد.