وأما حديث قبيصة بن ذُؤيب فقد حققنا أنه حديث مرسل، فهو ضعيف ليس فيه حجة إلى أن ابن شهاب الزهريّ شكّ فيه في بعض رواياته أكان هَذَا فِي الثالثة أم الرابعة.
وما جاء فِي بعض رواياته "فصارت رخصةٌ"، "فرُفع القتل عن النَّاس، وكانت رخصة، فثبتت"، "فرأى المسلمون أن القتل قد أخّر، وأن الضرب قد وجب"، و"وضع القتل عن النَّاس"، فإنها كلها منْ كلام الزهريّ، لا نشكّ فِي ذلك؛ لدلالة السياق عليه فِي مجموع الروايات، إذا ما تأملنها وفقهنا دلالتها.
واحتجّ القائلون بالنسخ بادّعاء الإجماع عليه، كما هو ظاهر كلام الترمذيّ وغيره، وهي دعوى لا غير، فليس فِي الأمر إجماع مع قول عبد الله بن عمرو:"ايتوني برجل قد شرب الخمر فِي الرابعة، فلكم عليّ أن أقتله، وهو منقطع لأن الحسن البصريّ لم يسمعه منْ عبد الله بن عمرو، وهذا لا يؤثّر فِي الاحتجاج به لنقض ما دّعي منْ الإجماع؛ لأنه إذا لم يكن قول عبد الله بن عمرو كَانَ عَلَى الأقلّ مذهب الحسن البصريّ؛ لأنه لو كَانَ يرى غير ذلك لبين أن هَذَا الحكم الذي نسبه لعبد الله بن عمرو حكم منسوح أداءً لأمانة العلم، وذلك الظنّ به. وَقَدْ ردّ ابنْ حزم فِي "الأحكام" ٤/ ١٢٠ دعوى الإجماع هذه، قَالَ: وَقَدْ ادّعى قوم أن الإجماع صحّ عَلَى أن القتل منسوخ عَلَى شارب الخمر فِي المرة الرابعة، قَالَ: وهذه دعوى كاذبة؛ لأن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو يقولا بقتله، ويقولان جيئونا، فإن لم نقتله، فنحن كاذبان، قَالَ: وبهذا القول نقول. وتبعه ابن القيم فِي تعليقه عَلَى "مختصر السنن" للمنذريّ ٦/ ٢٣٧ قَالَ: وأما دعوى الإجماع عليّ خلافه فلا إجماع، ثم نقل كلمة عبد الله بن عمرو، ونسبها أيضًا لعبد الله بن عمر، ثم قَالَ: وهذا مذهب بعض السلف، ويكفي هَذَا فِي نقض الإجماع، أو نفي ادعائه.
وادّعى آخرون أن قتل الشارب فِي الرابعة منسوخ بحديث عثمان -رضي الله عنه- مرفوعًا: "لا يحلّ دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث … " الْحَدِيث، وهو حديث صحيح، وردّ ابن القيّم ذلك بأنه لا يصحّ؛ لأنه عامّ، وحديث القتل خاصّ. وردّه ابن حزم أيضًا كما مضى فِي كلامه السابق.
وَقَالَ ابن القيّم رحمه الله تعالى فِي "تهذيب السنن" ٢٣٨/ ٦: -بعد أن نفى دعوى النسخ نفيًا باتا-: والذي يقتضيه الدليل أن الأمر بقتله ليس حتمًا، ولكنه تعزير بحسب المصلحة، فإذا أكثر النَّاس منْ الخمر، ولم ينزجروا بالحدّ، فرأى الإمام أن يقتل فيه، قَتَل، ولهذا كَانَ عمر -رضي الله عنه- ينفي فيه مرّة، ويحلق فيه الرأس مرّةً، وجلد فيه ثمانين،