للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الشبهة، وتوقف فِي حل ما يؤكل، وما يلبس منها، وَقَالَ فِي التمرة يلقيها الطير: لا يأكلها، ولا يأخذها، ولا يتعرض لها. وَقَالَ الثوري فِي الرجل يجد فِي بيته الأفلس أو الدراهم: أحب إلى أن ينتنزه عنها -يعني إذا لم يدر منْ أين هي-. وكان بعض السلف لا يأكل إلا شيئا يعلم منْ أين هو؟ ويسأل عنه حَتَّى يقف عَلَى أصله. وَقَدْ رُوي فِي ذلك حديث مرفوع، إلا أن فيه ضعفا.

وقوله: (وَسَأَضْرِبُ فِي ذَلِكَ مَثَلًا) أي سأجعل مثلاً؛ لإيضاح تلك الأمور (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَمَى حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَا حَرَّمَ، وَإِنَّهُ مَنْ يَرْعَ حَوْلَ الْحِمَى) بكسر الحاء المهملة، والقصر: أرض يحميها الملوك، ويمنعون النَّاس عن الدخول فيها، فمن دخله أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى، خوفًا منْ الوقوع فيه، والمحارم كذلك يعاقب الله تعالى عَلَى ارتكابها، فمن احتاط لنفسه لم يقاربها بالوقوع فِي المشتبهات (يُوشِكُ) بضم الياء، وكسر الشين: أي يقرب (أَنْ يُخَالِطَ الْحِمَى) لأنه يتعاهد به التساهل، ويتمرّن عليه، ويجسر عَلَى شبهة أخرى أغلظ منها، وهكذا حَتَّى يقع فِي الحرام (وَرُبَّمَا قَالَ: "يُوشِكُ أن يَرْتَعَ، وَإِنَّ مَنْ خَالَطَ الرِّيبَةَ) بكسر الراء: أي الشك (يُوشِكُ) أي يقرب (أَنْ يَجْسُرَ") بضم السين المهملة: أي يُقدِم عَلَى الحرام المحض، والْجَسُور: المقدام الذي لا يهاب شيئا، ولا يراقب أحدا. ورواه بعضهم: "يجشُر" بالشين المعجمة: أي يرتع، والجشر الشرعي، وجشرتُ الدابةَ: إذا رعيتها.

وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى عند قوله: "كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمي، ألا وإن حمى الله محارمه":

هَذَا مثل ضربه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لمن وقع فِي الشبهات، وأنه يقرب وقوعه فِي الحرام المحض، وفي بعض الروايات: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "سأضرب لكم مثلا … " ثم ذكر هَذَا الكلام، فجعل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مثل المحرمات، كالحمى الذي يحميه الملوك، ويمنعون غيرهم منْ قربانه.

وَقَدْ جعل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، حول مدينته اثني عشر ميلا، حمى محرما لا يقطع شجره، ولا يصاد صيده، وحَمَى عمر وعثمان أماكن ينبت فيها الكلأ؛ لأجل إبل الصدقة، والله سبحانه وتعالى حمى هذه المحرمات، ومنع عباده منْ قربانها، وسماها حدوده، فَقَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} الآية [البقرة: ١٨٧]، وهذا فيه بيان أنه حَدَّ لهم ما أحل لهم، وما حرم عليهم، فلا يقربوا الحرام، ولا يعتدوا الحلال، وكذلك قَالَ فِي آية أخرى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: ٢٢٩]، وجعل منْ يرعى حول الحمى، أو قريبا منه جديرا بأن يدخل الحمى،