فيرتع فيه، فلذلك منْ تعدى الحلال، ووقع فِي الشبهات، فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة، فما أخلقه بأن يخالط الحرام المحض، ويقع فيه.
وفي هَذَا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات، وأن يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزا. وَقَدْ أخرج الترمذيّ، وابن ماجه، منْ حديث عبد الله بن يزيد، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:"لا يبلغ العبد أن يكون منْ المتقين، حَتَّى يدع ما لا بأس به، حذرا مما به بأس"(١).
وَقَالَ أبو الدرداء رضي الله عنه:"تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ حَتَّى يتقيه منْ مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال؛ خشية أن يكون حراما، حجابا بينه وبين الحرام". وَقَالَ الحسن: مازالت التقوى بالمتقين، حَتَّى تركوا كثيرا منْ الحلال، مخافة الحرام. وَقَالَ الثوري: إنما سموا المتقين؛ لأنهم اتقوا مالاً يُتّقَى. ورُوي عن ابن عمر قَالَ: إنى لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة منْ الحلال، لا أخرقها. وَقَالَ ميمون بن مهران: لا يسلم للرجل الحلال، حَتَّى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا منْ الحلال. وَقَالَ سفيان بن عيينة: لا يصيب عبد حقيقة الإيمان، حَتَّى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا منْ الحلال، وحتى يدع الإثم، وما تشابه منه.
ويَستَدِلُّ بهذا الْحَدِيث منْ يذهب إلى سد الذرائع إلى المحرمات، وتحريم الوسائل إليها، ويدل عَلَى ذلك أيضًا منْ قواعد الشريعة تحريم قليل ما يسكر كثيره، وتحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم الصلاة بعد الصبح وبعد العصر؛ سدا لذريعة الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، ومنعُ الصائم منْ المباشرة، إذا كانت تتحرك شهوته، ومنع كثير منْ العلماء مباشرة الحائض فيما بين سرتها وركبتها، إلا منْ وراء حائل، كما كَانَ -صلى الله عليه وسلم- يأمر امرأته، إذا كانت حائضا أن تتزر فيباشرها منْ فوق الإزار.
ومن أمثلة ذلك، وهو شبيه بالمثل الذي ضربه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: منْ سيب دابته ترعى بقرب زرع غيره، فإنه ضامن لما أفسدته منْ الزرع، ولو كَانَ ذلك نهارا، وهذا هو الصحيح؛ لأنه مُفَرِّط بإرسالها فِي هذه الحال، وكذا الخلاف لو أرسل كلب الصيد قريبا منْ الحرم، فدخل فصاد فيه، ففي ضمانه روايتان عن أحمد، وقيل: يضمنه بكل حال.
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن فِي الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". فَقَالَ ابن رَجَب رحمه الله تعالى أيضًا: فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه المحرمات، واتقاءه للشبهات،
(١) ضعيف؛ لأن فِي سند عبد الله بن يزيد الدمشقيّ، وهو ضعيف.