من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع، وعدم عمل ابن عباس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي يمكن معه الاختلاف عمل بالاجتهاد، وليس بحجة.
ولو سُلِّم عدم لزوم التقييد بالعقل، فلا يشك عالم أن الأدلة قاضية بأن أهل الأقطار يعمل بعضهم بخبر بعض وشهادته في جميع الأحكام الشرعية، والرؤية من جملتها، وسواء كان بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع أم لا، فلا يقبل التخصيص إلَّا بدليل.
ولو سلِّم صلاحية حديث كريب هذا للتخصيص، فينبغي أن يقتصر فيه على محل النص، إن كان النص معلومًا، أو على المفهوم منه إن لم يكن معلومًا لوروده على خلاف القياس، ولم يأت ابن عباس بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بمعنى لفظه، حتى ننظر في عمومه وخصوصه، إنما جاءنا بصيغة مجملةٍ، أشار بها إلى قصة هي عدم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشام على تسليم أن ذلك المراد، ولم نفهم منه زيادة على ذلك حتى نجعله مخصصًا لذلك العموم، فينبغي الاقتصار على المفهوم من ذلك الوارد على خلاف القياس، وعدم الإلحاق به، فلا يجب على أهل المدينة العمل برؤية أهل الشام دون غيرهم، ويمكن أن يكون في ذلك حكمة لا نعقلها.
ولو نسلم صحة الإلحاق وتخصيص العموم به، فغايته أن يكون في المحلات التي بينها من البعد ما بين المدينة والشام، أو أكثر، وأما في أقل من ذلك فلا، وهذا ظاهر، فينبغي أن ينظر ما دليل من ذهب إلى اعتبار البريد أو الناحية أو البلد في المنع من العمل بالرؤية؟
والذي ينبغي اعتماده هو ما ذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية، واختاره المهدي منهم، وحكاه القرطبي عن شيوخه: أنه إذا رآه أهل بلد لزم أهل البلاد كلها, ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر [من] أن هذا القول خلاف الإجماع، قال: لأنهم قد أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بَعُدَ من البلدان كخراسان والأندلس، وذلك لأن الإجماع لا يتم، والمخالف مثل هؤلاء الجماعة، قاله الشوكاني في "النيل".