والملذّات، وتارةً في إصلاح نفوس وتزكية قلوب وتربية أرواح، ومرة في حبّ جهاد ونشر دعوة في ربوع العالم وأقطار البسيطة، ومرة أُخرى في إيثار وحبّ خمول واستقامة ومواجيد عرفانية وذوقية من علوم العرفاء، وحينًا في تدريس وتأليف ووعظ وإرشاد، وحينًا تجتمع فضائل من هذه الخصائل المتضادّة في بعض أفرادها، وما إلى ذلك من كمالات علمية وعرفانية يتلألأ فيها النبوغ الخارق والعبقرية الفذّة، وتتجلّى فيهم كمالات النبوّة ووراثتها وإن لم يكونوا أنبياء.
وهناك نشاهد ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل أُمَّتي كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره (١) "، فلكون هؤلاء الأفذاذ أصبحوا منابع للخير والرشد كأنه وقع الذهول عن أول الأمة وبركاتها وخيراتها فجاء هذا التعبير، وإن كان أول هذه الأمة أَبَرّها قلوبًا وأعمقها علومًا وأقربهم إلى الله زلفى.
ويحدِّثنا التاريخ أنَّ هذه البلاد الهندية وإن كان حظّها ضئيلًا في نشأة الأمر في الرجال والأفذاذ، ولكن يرى أنَ سُحُب الرَّحمة الإِلهية قد جادت من أوَّل الألف الثاني جودًا غزيرًا، فنشأت شخصيّات وعبقريّات لا يُماثِلُها في البلاد الإِسلامية الأخرى.
فالإِمام الرَّبَّاني الشيخ أحمد السرهندي، وأنجاله البررة الأتقياء وخلفاؤه الأصفياء، ثم الشيخ الشاه وليّ الله الدهلوي وأنجاله، خصوصًا: الحجّة عبد العزيز الإِمام، وابن أخيه الشيخ إسماعيل الشهيد، وشيخه السيد أحمد البريلوي الشهيد، ثم قطب العصر الحاج إمداد الله التهانوي المهاجر المكي، والشيخ الحجة محمد قاسم النانوتوي، ومحدِّث هذه العصور وفقيهها الشيخ رشيد أحمد الكَنكَوهي، ورجالات من النابغين في:"كاندهلة"، و"ديوبند"، و"تهانه بهون"، و"سهارنفور"، و"كَنكَوه"، نبغوا في هذه العصور الأخيرة فأصبحوا محلّ إعجاب وتقدير
(١) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (٢/ ٢٧٦) رقم (١٣٤٩) وابن عبد البر في "التمهيد" (٢٠/ ٢٥٢).