قال ابن رسلان: وفي هذا الحديث جواز الغيلة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنها، وبيَّن سبب ترك النهي، وفيه جواز الاجتهاد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبه قال جمهور أهل الأصول، وقيل: لا يجوز لتمكنه على الوحي، والصواب الأول، قيل: يحتمل ذكر فارس والروم لثلاثة أوجه:
أحدها: لكثرتهم، والثاني: لسلامة أولادهم في الغالب، والثالث: أنهم أهل طب وحكمة، فلو علموا أنه يضر ما فعلوه.
فإن قلت: حديثا جدامة وأسماء متعارضان ومتنافيان بوجهين:
أحدهما: أن في حديث أسماء أخبر - صلى الله عليه وسلم - مؤكدًا بالقسم، كما في رواية (١) النسائي: "فوالذي نفسي بيده إن الغيل يدرك الفارس"، الحديث بوجود الغيل وأثره، وأخبره بنفيه في حديث جدامة بأن الفرس والروم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم.
والوجه الثاني: أن التنافي بينهما بوجود النهي وعدمه، فإن حديث أسماء يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، فإنه قال:"لا تقتلوا أولادكم سرًا"، وهذا نهي.
وفي حديث جدامة:"لقد هممت أن أنهى عن الغيلة"، وهذا يقتضي أنه لم ينه عنه، فكيف وجه التوفيق بينهما.
قلت: وجه التوفيق بينهما أن حديث جدامة مقدم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر على عادة العرب وخيالاتهم أن الغيل يضر، ثم نظر إلى فعل فارس والروم فظن أنه لا يضر، فعلى طريق العرب هَمَّ أن ينهى عنه، ثم على طريقة فارس والروم لما غلب على ظنه أنه لا يضر كف عنه وامتنع، ثم بعد ذلك أعلم من الله سبحانه وتعالى أنه يضر، ولكن ليس ضرره على الغالب، بل هو قليل يؤثر أحيانًا في بعض الأمزجة، فنهى عنه - صلى الله عليه وسلم - تنزيهًا، فعلى هذا يتفق الحديثان، ولا يبقى بينهما تعارض، والله أعلم.
(١) لعله سبق قلم، فإن الرواية في "ابن ماجه" (٢٠١٢)، وإليه عزاه المنذري (٣٧٣٢). (ش).