للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوم أن النهي للتنزيه, وأنه يجوز الإقدام لمن قوي توكله وصح يقينه, وتمسكوا بما جاء عن عمر أنه ندم على رجوعه من "سرغ" بفتح فسكون فقد أخرج ابن أبي شيبة بسند جيد من رواية عروة بن رويم عن القاسم بن محمَّد عن ابن عمر قال جئت عمر حين قدم فوجدته قائلًا في خبائة فانتظرته في ظل الخباء فسمعته يقول حين تضوّر (التوي) اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ, وأخرجه ابن راهويه في مسنده أيضًا.

وأجاب القرطبي بأن هذا لا يصح عن عمر وقال كيف يندم على فعل ما أمر به النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ويستغفر منه. وأجيب بأن سنده قوي والأخبار القوية لا ترد بمثل هذا مع إمكان الجمع يحمل النهي في الحديث علي التنزيه, وأن القدوم على مكان الطاعون جائز لمن غلب عليه التوكل, والانصراف عنه رخصة فيكون ندم عمر على الأخذ بالرخصة:

يؤيده ما أخرجه ابن خزيمة بسند صحيح عن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير بن العوام خرج غازيًا نحو مصر فكتب إليه أمراء مصر إن الطاعون قد وقع فقال إنما خرجنا للطعن والطاعون فدخلها فلقي طعنًا في جبهته ثم سلم. ويحتمل أن يكون سبب ندمه أنه خرج لأمر مهم من أمور المسلمين فلما وصل إلى قرب البلد المقصود له رجع مع أنه كان يمكنه أن يقيم بالقرب منها إلى أن يرتفع الطاعون فيدخل إليها ويقضي حاجة المسلمين, ويؤيد ذلك أن الطاعون ارتفع عنها عن قرب فلعله كان بلغه ذلك فندم علي رجوعه إلى المدينة قبل قضاء تلك المهمة لا على الرجوع خوفًا من الطاعون فرأى أنه لو انتظر لكان أولى لما في رجوعه من المشقة على العسكر الذين كانوا معه, والخبر لم يرد بالأمر بالرجوع وإنما ورد بالنهي عن القدوم

(قوله فلا تخرجوا فرارًا منه) أي فارين من الطاعون لأن الفرار منه فرار من قضاء الله. وظاهر النهي عن تحريم الخروج فرارًا من الوباء وهو رأي الجمهور, ويؤيده ما رواه أحمد وابن خزيمة من حديث جابر مرفوعًا "الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصبر فيه كالصابر في الزحف" وما روياه أيضًا عن عائشة قالت: يا رسول الله فما الطاعون؟ قال غدة كغدة الإبل المقيم فيها كالشهد والفار منها كالفار من الزحف, والغدة طاعون الإبل وقلما تسلم منه. وعن عائشة قالت سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عن الطاعون فأخبرني أنه غدًا يبعثه الله على من يشاء وأن الله عَزَّ وَجَلَّ جعله رحمة للمؤمنين ليس من أحد يقي الطاعون فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له كان له مثل أجر الشهيد. أخرجه البخاري.

ونقل القاضي عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي بها الطاعون عن جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وأبو موسي الأشعري والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وقال فروا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورءوس الجبال. ومن التابعين الأسود بن هلال ومسروق. ولعل هؤلاء يرون النهي في الحديث لضعيف الإيمان الذي ربما ظن أن

<<  <  ج: ص:  >  >>