هلاك القادم إنما حصل بقدومه وسلامة الفار كانت بفراره. أما قويه فيجوز له الدخول في بلد الطاعون والخروج منه لأنه لا يتسرب إليه ذلك الظن فهو نحو النهي عن الطيرة والقرب من المجذوم المذكورين في حديث البخاري, فإن الأمر بالفرار من المجذوم محمول على ضعيف الإيمان, والنهي المفهوم من قوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم "لا عدوي ولا طيرة الخ" محمول علي قويه.
قال الخطابي أحد الأمرين "وهو النهي عن الدخول في بلد الطاعون" تأديب وتعلم والآخر "وهو النهي عن الخروج من بلد الطاعون" تفويض وتسلم, وقد جاء عن ابن مسعود قال: الطاعون فتنة على المقيم والفار, أما الفار فيقول فررت فنجوت, وأما المقيم فيقول أقمت فمت, وإنما فر من لم يأت أجله وأقام من حضر أجله, وعن أبي موسى الأشعري عند الطحاوي والبيهقي بسند حسن قال "إن هذا الطاعون قد وقع فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل واحذروا اثنتين أن يقول قائل خرج خارج فسلم وجلس جالس فأصيب, فلو كنت خرجت لسمت كما سلم فلان, أو لو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان" أما إذا كان الخروج لغير الفرار من الطاعون وقع بها فاتفق وقوعه أثناء استعداده أو سيره إليها.
وأما من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها وانضم إلى ذلك قصد الفرار من الطاعون ففيه خلاف: فمن منع نظر إلى صورة الفرار ومن أجاز نظر إلى حاجته الأخري
(قال في الفتح) قد ذكر العلماء في النهي عن الخروج حكمًا منها أن الطاعون في الغالب يكون عامًا في البلد الذي يقع به فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن بها فلا يفيده الفرار لأن المفسدة إذا تعينت حتى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثًا لا يليق بالعاقل.
ومنها أن الناس لو توافقوا على الخروج لصار من عجز عنه بالمرض في ذلك كسر قلوب الضعفاء, وقد قالوا إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف لما فيه من كسر قلب من لم يفر وإدخال الرعب عليه بخذلانه.
ومنها ما ذكره بعض الأطباء أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة وتألفها وتصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم توافقهم بل ربما إذا استنشقوا هواءها اصطحب معه إلى القلب من الأبخرة الرديئة التي حصل تكيف بدنه بها فأفسدته فمنع من الخروج لهذه النكتة اهـ
(والحديث) أخرجه أيضًا أحمد ومسلم, وكذا البخاري من طريق عبد الله بن يوسف عن مالك بسنده إلى ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام, قال ابن عباس قال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء