(قوله أن لا أدع قبرًا مشرفًا الخ) بيان لما بعث به النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عليًا. وفي بعض النسخ أن لا تدع بتاء الخطاب فيكون بيانًا لما بعث به عليّ أبا الهياج. وأن تفسيرية ولا ناهية. ويحتمل أن كون أن مصدرية: لا نافية خبر لمبتدأ محذوف أي هو عدم تركي قبرًا. ومشرفًا بكسر الراء أي مرتفعًا عن الأرض ارتفاعًا كثيرًا.
أما ارتفاعه نحو شبر فمأذون فيه لما أخرجه سعيد بن منصور في سننه والبيهقي من حديث جعفر بن محمَّد عن أبيه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء ورفعه شبرًا.
واتفق العلماء على استحباب رفع القبر نحو شبر ليعلم أنه قبر فيتوقى ويترحم على صاحبه إلا أن يكون مسلمًا دفن في دار الحرب فيخفى قبره مخافة أن يتعرض له الكفار بالأذى.
أما الارتفاع الزائد على القدر المشروع فهو المأمور بهدمه جعله مساويًا بالسطح الأرض بحيث لا يكون مرتفعًا عنها إلا بالقدر المأذون فيه كما علمت.
فما يفعله أهل زماننا من تشييد القبور ورفعها كثيرًا منكرات الشريعة التي يجب على المسلم إنكارها وتسويتها من غير فرق بين نبي وغيره وصالح وطالح، فقد مات جماعة من كبار الصحابة في عصر النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ولم ترفع قبورهم ومات صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ولم يرفع أصحابه قبره، فما أحق الصلحاء والعلماء أن يكون شعارهم هو الشعار الذي أرشد إليه النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وتخصيصهم بهذه البدعة المنهي عنها تخصيص لهم بما لا يناسب العلم والفضل فإنهم لو تكلموا في قبورهم لضجوا من اتخاذ الأبنية عليها وزخرفتها لأنهم لا يرضون حينئذ أن يكون لهم شعار من مبتدعات الدين ومنهياته.
فما أقبح ما ابتدعه جهلة المسلمين من زخرفة القبور وتشييدها، وما أسرع ما خالفوا هدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وأصحابه في قبورهم.
وقد صرّح بتحريم رفع القبر أصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ومالك والقول بأنه غير ممنوع لوقوعه من السلف والخلف بلا نكير لا يصح لأن غاية ما فيه أنهم سكتوا عن ذلك، والسكوت لا يكون دليلًا إذا كان في الأمور الظنية وتحريم رفع القبور ظني.
قال الشوكاني في شرح حديث الباب: ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولًا أوليًا القبب والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد وقد لعن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فاعل ذلك، وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من فاسد يبكي لها الإِسلام. منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر فجعلوها مقصدًا لطلب قضاه الحوائج وملجأ لنجاح المطالب وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم وشدوا إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا. وبالجملة إنهم لم يدعوا شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه. فإنا لله وإنا إليه راجعون.