أما الأول: فلأن هذا القول في ترجيح حفظ أبي رافع على حفظ ابن عباس لم يقل به أحد من أهل العلم من الصحابة والتابعين، ولا يساعده رواية ولا دارية؛ فإن الحفظ أمر فطري لا دخل فيه لكبر العمر ولا لصغره، ألا ترى أن مرتبة البخاري في حفظه في الصغر، هل يدانيه أحد غيره في كبره؟ فما لابن عباس من العلم والفقه والحفظ والإتقان مع صغره لا يُدانيه أبو رافع، وإن كان في الصحة سواء.
ألا ترى أن عبد الرحمن بن عوف لما اعترض على عمر بن الخطاب بأنه كان يدنيه في مجلسه مع الأشياخ، وقال: وكيف تدنيه ولنا أبناء مثله؟ فأجاب: إنكم تعلمون ما مرتبته في العلم والفقه، ثم سألهم عن معنى قوله:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فسكتوا، وأجاب ابن عباس بأن المراد أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد حدث بهذا الحديث في حال كبره، ولم يعتريه شك وشبهة. فروى عنه أصحابه المتقنون إلى أن أخرجه الستة (١) في كتبهم، فكيف يرجح قول أبي رافع على قول ابن عباس؟ !
وأما الثاني: سلَّمنا أن أبا رافع كان الرسولَ بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينها، وعلى يده دار حديث الخطبة والرسالة، ولكن لا نسلِّم أنه أعلم من ابن عباس؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا رافع إلى مكة ليخطبها له، ففوَّضتْ أمرَها إلى أختها أم الفضل زوجةِ عباس بن عبد المطلب، وفَوَّضَتْ أمُّ الفضل أمرَها إلى زوجها عباس بن عبد المطلب، فلم يكن أبا رافع إلا أنه بلَّغ رسالة الخطبة، ولم يكن له دخل في النكاح، ولا نعلم في رواية أنه باشر النكاح، أو كان حاضرًا في مجلس النكاح، بل باشر النكاحَ عباسُ بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، ولهذا نستدل بأن ابن عباس أعلم بحال النكاح؛ فإنه ابنه.
(١) أخرجه البخاري (٤٢٥٨)، ومسلم (١٤١٠)، وأبو داود (١٨٤٤)، والترمذي (٨٤٤)، والنسائي (٢٨٣٧)، وابن ماجه (١٩٦٥)، وأحمد (١/ ٢٢١)، والدارمي (١٨٢٩).