فلم تبق له إلَّا اسمه ورسمه، فسعى أركانها إلى حضرة القطب الكَنكوهي المومأ إليه - قُدِّس سرّه العزيز- طالبين أمره الشريف بقَبول صدارة التدريس بها فلبّاه، ورقاها إلى أوج الكمالات فكلّ مسابق أعياه، وذلك في سنة أربع عشرة بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة، فاقتصرت عليه الكتب العالية من الحديث والتفسير والفقه والأصول وغيرها، فدرسها بغاية الإِتقان والتحرير، حتى أنْ ضرب الناس بأكباد إبلهم إلى فنائه ورحابه، وصار المشرق والمغرب يلفظ أفلاذ أكباده إلى أعتابه وجنابه، فنقح المسائل ورتب ونشر الأحاديث في الآفاق وألَّف، وفتح آذانًا صمًّا، وأحيا قلوبًا غلفًا.
وحيث إنَّ "سنن أبي داود" كان مِن أُمَّهات الأحاديث وأصولها، وجامعًا للمعتبر من الروايات وفروعها، كافيًا لمن أراد التبصُّر في السنن النبوية، معتمدًا لمن قصد الاجتهاد في المعارف الدِّينية، وتوجَّه إليه الأئمّة الحاذقون بالشروح والحواشي، وخدموه بإزالة غموضاته وكشف الغواشي، فمنهم مَن توجَّه إلى فقه الأحاديث والمتون، ومنهم مَن قَصَد الأسانيد والاستيعاب لكلّ ما يجب من العلوم والفنون، فمن مطول ومختصر، ومن مطنب ومقتصر.
ولما رأى حضرة الأستاذ - مدَّ الله ظلّه العالي- أنَّ هذه الشروح والحواشي قد لعبت بها بنات الأفلاك وحوادث الدهر، ولم يبق لها في صفحات الوجود إلَّا أساميها الموجبة للحسرات والويلات لأبناء العصر، قصد أن يشرحها شرحًا وجيزًا يحلّ مشكلاته، ويفصل معضلاته، ولا يترك شيئًا من عُجَره وبُجَره، ولا يبقي مستورًا من خبايا كنوزه وبدره.
ولكن عاقته عوائق الدهر عن الإِسعاف، وصادمته صوارف الزمان بكل جور واعتساف، فلم يزل يقاومها بكلّ همّة واستقلال، ويصرف لمعارضتها ثواقب العزم بغاية القوَّة والكمال، إلى أن أيَّدته النفحات القدسية والألطاف العلويّة، فشرع في المأمول، واجتهد في المسؤول،