"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب لبنًا فلم يتمضمض ولم يتوضأ"، فإن قلت: ادَّعى ابن شاهين أن حديث أنس ناسخ لحديث ابن عبّاس، قلت: لم يقل به أحد، ومن قال فيه بالوجوب حتى يحتاج إلى دعوى النسخ، كذا في "العيني"، وكذلك قال الحافظ في "الفتح".
قلت: وبالجملة فلم يقل أحد (١) بوجوب المضمضة والوضوء الاصطلاحي بشرب اللبن، سواء كان مطبوخًا، أو غير مطبوخ، نعم بقي ها هنا أن ما أخرج ابن ماجه بسنده عن أسيد بن حضير، وفيه:" توضؤوا من ألبان الإبل"، وأيضًا من حديث عبد الله بن عمرو، وفيه:"توضؤوا من ألبان الإبل"، يدل على وجوب الوضوء الاصطلاحي من ألبان الإبل، فإن الحديثين وإن كان في بعض رواتهما مقال، ولكنهما لما تأيد كل واحد منهما بالآخر صارا حجة ودليلًا على الوجوب، فإن صيغة الأمر للوجوب، والوضوء لفظ يجب أن يحمل على الحقيقة الشرعية.
فإن قيل: إن الأحاديث التي رويت في باب الوضوء من اللبن قرينة صارفة عن أن يحمل الأمر على الوجوب، وقد حمل الأمر بالمضمضة على الاستحباب فيها، فكذلك يحمل ها هنا الأمر بالوضوء على الاستحباب دون الوجوب، فإن ألبان الإبل فرد من أفراد جنس اللبن.
قلنا: لا نسلم ذلك، فإن وجوب الوضوء بألبان الإبل حكم، والمضمضة من اللبن حكم آخر غير ذلك الحكم، فمحال أن يكون هذا قرينة على ذاك، فيمكن أن يكون حكم المضمضة أولًا، ثم أمروا بالوضوء بعد ذلك بشرب ألبان الإبل، بل الأولى في الجواب، أن يقال: إن إجماع
(١) قلت: إلَّا أن في إحدى الروايتين عن أحمد نقض الوضوء بألبان الإبل، كما في "المغني" (١/ ٢٥٤). (ش).