وهذا الحديث وقع فيه اختصار من شعبة، فإن التي سيأتي من رواية الأعمش عن إسماعيل ففيه:"فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنَّة"، وقد أخرجه مسلم في "صحيحه" مثل سياق أبي داود، ولكن خالف النسائي أبا داود ومسلمًا في سياق هذا الحديث عن الأعمش عن إسماعيل، فقال فيه:"يؤم القوم أقرأهم بكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأقدمهم في الهجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأعلمهم بالسنَّة"، والظاهر أن الراجح ما اتفق عليه مسلم وأبو داود.
واستدل بتقديم الأفقه والأعلم بالسنَّة على الأقرأ بتقديمه - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر في الصلاة على غيره مع أن غيره كان أقرأ منه، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقرأكم أُبَىٌّ"، والمراد بالأقرأ في الحديث الأفقه في القرآن، فإذا استووا في القرآن فقد استووا في فقهه، فإذا زاد أحدهم بفقه السنَّة فهو أحق, فلا دلالة في الخبر على تقديم الأقرأ مطلقًا، بل على تقديم الأقرأ الأفقه في القراءة على من دونه، ولا نزاع فيه.
ولما كان الصديق مشتركًا مع غيره في ضبط القراءة وحسن أدائها قدم عليهم، فدل على أنه إذا تعارض الأقرأ والأعلم يقدم الأعلم، وقد كان مع هذا أورع وأسن وأسبق، فكان بها أولى وأحق, ويدل على كونه أعلم قول أبي سعيد:"كان أبو بكر أعلمنا"، إلَّا أن قصة الإشارة إلى الاستخلاف ربما تكون مخصصة على أنها واقعة حال لا عموم لها، ومن ثم اختار جمع من المشايخ قول أبي يوسف.
(فإن كانوا) أي بعد استوائهم فيما سبق (في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنًا) أي في الإِسلام (١) لأنه في معنى الأقدم في الهجرة والأثبت في الإيمان, ويؤيده ما في رواية مسلم:"فأقدمهم سلمًا".
(١) فمن أسلم وهو ابن عشرين مقدم على من أسلم بعده ولو كان ابن ثلاثين، "ابن رسلان". (ش).