أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الاغتسال في المال القليل؛ لإجماعنا على أن الاغتسال في الماء الكثير كالبحر مثلًا ليس بحرام، فلولا أن القليل من الماء ينجس بالاغتسال بنجاسة الغُسالة لم يكن للنهي معنى؛ لأن إلقاء الطاهر في الطاهر ليس بحرام، أما تنجيس الطاهر فحرام، وكان هذا نهيًا عن تنجيس الماء الطاهر بالاغتسال، وذا يقتضي التنجيس به.
لا يقال: يحتمل أنه نهى لما فيه من إخراج الماء من أن يكون مطهرًا من غير ضرورة، وذلك حرام؛ لأنا نقول: الماء القليل إنما يخرج عن كونه مطهرًا باختلاط غير المطهر به إذا كان الغير غالبًا عليه، وأما إذا كان مغلوبًا فلا، وها هنا الماء المستعمل ما يلاقي البدن أقل من غير المستعمل، فكيف يخرج به من أن يكون مطهرًا.
ولا يقال: يحتمل أنه نهى لأن أعضاء الجنب لا تخلو عن النجاسة الحقيقية، وذا يوجب تنجيس الماء القليل؛ لأنا نقول: الحديث مطلق، فيجب العمل بإطلاقه، ولأن النهي عن الاغتسال ينصرف إلى المسنون؛ لأنه هو المتعارف فيما بين المسلمين، والمسنون منه هو إزالة النجاسة الحقيقية عن البدن قبل الاغتسال على أن النهي عن إزالة النجاسة الحقيقية التي على البدن استفيد بالنهي عن البول فيه، فوجب حمل النهي عن الاغتسال فيه على ما ذكرنا, ولأن هذا مما تستخبثه الطبائع السليمة، فكان محرمًا لقوله تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}(١)، والحرمة لا للاحترام دليل النجاسة، ولأن الأمة أجمعت على أن من كان في السفر ومعه ماء يكفيه لوضوئه وهو بحال يخاف على نفسه العطش يباح له التيمم، ولو بقي الماء طاهرًا بعد الاستعمال لما أبيح؛ لأنه يمكنه أن يتوضأ، ويأخذ الغسالة في إناء نظيف، ويمسكها للشرب.