فدل على أن ولي البكر أحق بها منها، فيجاب عنه بأن المفهومَ لا ينتهض للتمسك به في مقابلة المنطوق. وقد أجابوا عن دليل أهل القول الأول بما قاله الشافعي من أن المؤامرة قد تكون على استطابة النفس، ويؤيده حديث ابن عمر بلفظ:"وآمِرُوا النِّساء في بناتهنَّ"، قال: ولا خلاف أنه ليس للأم أمر، لكنه على معنى استطابة النفس.
وقال في "الجوهر النقي"(١): حكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: لو كان النكاح لا يجوز على البكر إلَّا بأمرها لم يجز أن تزوج حتى يكون لها أمر في نفسها.
قلت: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تُنكح البكرُ حتى تستأذن" دليلٌ على أن البكرَ البالغَ لا يجبرها أبوها ولا غيره. قال شارح "العمدة": وهو مذهب أبي حنيفة، وتمسكه بالحديث قوي؛ لأنه أقرب إلى العموم في لفظ البكر، وربما يُزاد على ذلك بأن يقال: الاستئذان إنما يكون في حق من له إذن، ولا إذنَ للصغيرة، فلا يكون داخلةً تحت الإرادة، ويختص الحديث بالبوالغ، فيكون أقرب إلى التناول.
وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"ولا تُنكح البكر حتى تستأذنَ"، وهو قول عام. فكل من عقد على خلاف ما شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو باطل؛ لأنه حجة على الخلق، وليس لأحدٍ أن يستثني، إلَّا سنَّة مثلها، فلما ثبت أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - زوَّج عائشة - رضي الله عنها - من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهيَ صغيرة، لا أمر لها في نفسها، كان ذلك مستثنى منه، انتهى.
وقوله عليه السلام في حديث ابن عباس:"والبكرُ يستأذنُها أبوها"، صريح في أن الأبَ لا يجبر البكرَ البالغَ، ويدل عليه أيضًا حديث جرير، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، فترك الشافعي منطوق هذه الأدلة، واستدل بمفهوم حديث:"الثيب أحق بنفسها"، وقال: هذا يدل على أن البكرَ بخلافها.
(١) انظر: "السنن الكبرى مع الجوهر النقي" (٧/ ١١٤).