وهذا الكتاب - يعني "سنن أبي داود" لم يحتج معهما إلى شيء من العلم، أي يكفيه في السنة.
وقد صنَّف علماء الحديث قبله الجوامع والمسانيد ونحوها. فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخبارًا وقصصًا ومواعظ وآدابًا، فأما السنن المحضة فلم يقصد أحد منهم إفرادها واستخلاصها، ولا اتفق له ما اتفق لأبي داود.
وقد وفق الله عز وجل العالم الرباني، خِرِّيت طرق السنَّة، الجامع للأصول والفروع، الذي نوَّر الله قلبه وباطنه وظاهره، ومولانا الإمام أبا إبراهيم خليل أحمد الأيوبي الأنصاري نسبًا ومحتدًا، والحنفي الرشيدي مشربًا ومذهبًا، والجشتي القادري النقشبندي السهروردي طريقة ومسلكًا، المولود بنانوته في كورة من نواحي سهارنفور بالهند في أواخر صفر سنة تسع وستين ومائتين وألف، والمتوفى سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف من الهجرة بالمدينة المنورة حيث دفن بالبقيع بجوار أهل البيت مجاورًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفقه لشرحه "سنن أبي داود".
وإذا كان الخط الجميل يدل بوضعه دلالة واقعية بَيِّنة على مهارة كاتبه وإتقانه لفنه، دلالة هي أقوى من الشهادات القولية، فالغوص في بحار معاني السنن, وإخراج مكنوناتها، وبسط مقاصدها، وتوضيح دقائقها، وتقريب فهمها، وجمع المتفرق منها، يدل هذا كله دلالة عملية على نبوغ وثبوت في ميدان المعرفة لمن وفقه الله لذلك.
وأولئك الذين بَيَّنوا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبينة للقرآن، هم في حقيقة الأمر رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذين دعا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنضارة، لا نضارة الظاهر فحسب، بل نضارة الظاهر والباطن، نوَّرهم الله. فجعل لهم نورًا في باطنهم يكشفون به حقائق التنزيل، وحقائق البيان والتأويل.
ولقد بات الشافعي - رضي الله عنه - ليلة يفكر في حديث:"يا أبا عمير ما فعل النغير؟ "، ففهم من هاتين الجملتين الكثير من الأحكام، منها تكنية الصبي الصغير تيمنًا بأنه سيكبر ويكون له ولد، يلاطفه بخطابه بالتصغير، فهو عمر، ولكنه يناديه بعمير. وأن تمكين الصبي من اللهو البريء الذي لا ضرر