قال محمد بن رشد: قوله ليس من هيئة الناس اليوم أن يصلوا جلوسا، أي ليس من هيئتهم أن يصلي المريض الجالس بالأصحاء قياما، يريد أن ذلك إنما كان من هيئة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمرتبته التي لا يشاركه فيها غيره، فكان ذلك من خواصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقوله بعد ذلك ولعل هذا شيء نسخ والعمل على حديث ربيعة إلى آخر قوله، يدل على أنه لم يرد ذلك من خواصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه كان شرعا شرعه لأمته ثم نسخه عنهم بما كان من فعله أيضا في ذلك المرض الذي توفي فيه.
وقد تعارضت الآثار في ذلك فجاء في بعضها ما دل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما خرج في مرضه وأبو بكر يصلي بالناس تأخر أبو بكر عن الإمامة وتقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بالناس بقية صلاتهم وهو جالس والقوم خلفه قياما، وجاء في بعضها ما يدل على أن أبا بكر لم يتأخر عن الإمامة، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما صلى مؤتما بأبي بكر، فمن الناس من صحح ما دل منها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان الإمام ورأى ذلك شرعا لأمته ثم لم ينسخه عنهم ولا اختص به دونهم، فأجاز إمامة المريض جالسا بالأصحاء قياما، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك، وفي هذا نظر، كيف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس في صلاة قد دخلوا فيها قبله، إلا أن يتأول أنه أحرم خلف أبي بكر ودخل في الصلاة معه، ثم حينئذ تقدم فصار هو الإمام رجع أبو بكر مأموما، فيستقيم معنى الحديث ويصح التعلق به لمن أجاز إمامة الجالس منه.
ومنهم من صحح أيضا ما دل منها أنه كان الإمام إلا أنه رأى ذلك من خواصه، فلم يجز لأحد بعده إذا كان مريضا أن يؤم الأصحاء قياما، وهو قول مالك في هذه الرواية على ما قلناه.
ومنهم من ذهب إلى أن ذلك كان منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاتين فكان في الصلاة الأولى هو الإمام، وائتم في الثانية بأبي بكر، فكان فعله في الصلاة الثانية ناسخا لفعله في الصلاة الأولى.
وإلى هذا ينحو آخر قول مالك في هذه الرواية على ما قلناه. فعلى هذا التأويل تخلص الآثار من التعارض، فهو أولاها بالصواب، والله أعلم. فإن أَمَّ المريض جالسا بالأصحاء قياما على ما في رواية ابن القاسم عن مالك أجزأته وأعاد القوم