الإسفار؟ قال: بل التغليس أحب إلي من الإسفار، وقد غلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها.
قال محمد بن رشد: قوله: وقد غلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها لفظ وقع على غير تحصيل؛ لأن قول القائل: فعل فلان كذا، لا يدل على أكثر من مرة واحدة، وليس في تغليس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصلاة الصبح مرة واحدة دليل على أن ذلك أفضل أوقاتها، كما أنه ليس في إسفاره بها مرة واحدة دليل على أن ذلك أفضل أوقاتها، وإنما يدل على أن التغليس بها أفضل مداومة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، فكان الصواب أن يقول: وقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغلس بها، وهو الذي أراد بحديث عائشة:«إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات» ، الحديث، لكنه تجاوز في اللفظ لنفسه بفهم السائل، وهي حجة ظاهرة على أهل العراق في قولهم: إن الإسفار بها أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسفروا بالصبح، فكلما أسفرتم بها فهو أعظم للأجر» أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومعنى ذلك عندنا الحض على التأخير إلى أن يتضح إسفار الفجر، فلا يرتاب في طلوعه حتى يتفق قوله وفعله؛ لأنه يبعد في القلوب أن يداوم على الإغلاس الذي هو أشق، ويترك الإسفار الذي هو أخف مع كونه أعظم أجرا. فقد قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه» ، فكيف إذا كان أعظم أجرا! هذا ما لا يصح لمسلم أن يقوله، وكذلك سائر الصلوات أول أوقاتها أفضل من آخرها عند مالك، وقد تأول بعض الشيوخ