للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما» . ولا حجة لهم في الحديث؛ لأن قوله فيه: «لا صام ولا أفطر» ليس معناه الدعاء عليه، فيقتضي ذلك النهي عن صيام الدهر، وإنما معناه: ما صام وما أفطر؛ لأن الحروف قد يبدل بعضها من بعض، أي: ما صام الصيام الذي أعلى مراتب الصوم، إذ لا يؤمن أن يضعف على التمادي على ذلك، أو على سائر ما كان يفعله من أعمال البر، كالصلاة وقراءة القرآن، وما أشبه ذلك من الأعمال التي قد يضعف عنها بموالاة الصيام.

وذكر في الرواية: أن قوما يحتجون لذلك بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعثمان بن مظعون، ولم يذكر فيها نص ما قاله له. وفي الصحيح عن أنس بن مالك أنه قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: وأين نحن من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» . فإن كان عثمان بن مظعون أحد هؤلاء الثلاثة رهط، فهذا هو نص الكلام الذي قاله له، وإن لم يكن هو فالكلام الذي قاله له هو ما كان في معناه والله أعلم، يدل على ذلك تأويل مالك له، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعمل الأشياء ليوسع على الناس، وهو تأويل جيد؛ لأن معناه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم ويفطر، وإن كان الأفضل أن يسرد الصيام مخافة أن يسرده الناس، فلا يقدرون على التمادي على ذلك، ويضعفون عن سائر

<<  <  ج: ص:  >  >>