قال محمد بن رشد: قوله: فانظروا عمن تحملون دينكم - يدل على أنه لا يجب قول خبر الراوي والعمل به، إلا بعد أن ينظر فيه، فتعرف عدالته، بأن يكون مجتنباً للكبائر متوقياً للصغائر.
هذا أحسن ما قيل في حدِّ العدالة؛ لأن من واقع كبيرة من الكبائر، فهو فاسق محمول على الفسق حتى تعلم توبته منها، ومن لم يتوق من الصَّغائر، فليس بعدل حتى تعلم توبته منها؛ لأن متابعة الصغائر كمقارفة الكبائر، والشافعي يشترط المروءة في جواز الشهادة، ولا تصح العدالة إلا بعد الإِسلام والبلوغ. فهذه الثلاثة أوصاف مشروطة في العدالة، فمن ظهر فسقه لم تقبل روايته، ومن ظهرت عدالته، قبلت روايته إجماعاً.
واختلف إذا جهلت حاله، فلم يعلم منه فسق ولا ظهرت منه عدالته، فقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يحمل على العدالة، وتقبل روايته، وكذلك قالوا في الشهادة على الأموال خاصة، دون الشهادة على ما سواها من الحدود والأبضاع وشبهها. واستدلوا لِما ذهبوا إليه من ذلك بقول عمر بن الخطاب:"الْمُسْلِمُونَ عُدولٌ بَعْضُهم عَلَى بَعْضٍ " ... الحديث، ولا حجة لهم في ذلك، إذ ليس على ظاهره؛ لأن معناه: إنما هو أن المسلمين هم الذين تجوز شهادتهم على بعضهم، لا الكفار، بدليل قوله:"وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لا يُؤسر رَجَلٌ فِي الإِسْلاَم بِغَيْرِ الْعُدًول". والذي ذهب إليه مالك وجمهور العلماء أنه لا تقبل روايته، ولا تجوز شهادته إلا بعد أن تعرف عدالته؛ لقوله عز وجل:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}[البقرة: ٢٨٢] إذ لا يُرضى إِلاَّ من عرف بالعدل والرضا.
وقد مضى الكلام على هذا مستوعبا في سماع سحنون من كتاب الشهادات، وأما تحمُّل الخبر والشهادة فلا يشترط في صحته إلا الميز والضبط خاصة، لا الإِسلام، ولا البلوغ، ولا العدالة، ولا الحرية.