القياس إلا وجه واحد وهو: هل الأصل معلول بهذه العلة أم لا؟ وما جاز عليه أوجه كثيرة مما تبطل الحجة به أضعف مما لم يجز عليه إلا وجه واحد، وكذلك إجماع أهل المدينة عنده من جهة حجة تجري مجرى نقل التواتر؛ لأنهم إذا أجمعوا على أمر من الأمور فلا يخلو من أن يكونوا أخذوه توقيفا أو رآهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأقرهم ولم يتعرض للنهي عنه ولا أنكره، وأي ذلك كان فقد حصل النقل له من جميعهم والتواطؤ عليه من كافتهم، فوجب أن يقدم على غيره ولا سيما إذا كان الأمر مما لا ينفك منه أهل عصر والحاجة إليه عامة كالأذان والإقامة والصلاة على الجنائز وترك أخذ الزكوات من الخضراوات وما أشبه ذلك كثير.
ولما كانت المدينة معدن العلم ومهبط التنزيل وعنها خرج العلماء، والكافة من العلماء بها مقيمون، والعمل جار منهم على ما استقر من أركان الشريعة وجب أن يكون إجماعهم على الحادثة يحج من سواهم ممن رحل عنهم فخالفهم لجواز أن يكون قد نسي أو شبه له، كما روي أن ابن مسعود أفتى في الكوفة بتزويج الأم قبل أن يدخل بها ثم قدم المدينة فأخبروه أن الأم مطلقة وأن العمل بخلاف ما أفتى، فرجع إلى الكوفة فأمر الرجل أن يفارق امرأته، ولو حصل إجماعهم من طريق القياس لوجب أن يقدم على قياس غيرهم؛ لأنهم وإن شاركوا أهل الأمصار في مقامات العلم فقد زادوا عليهم بمشاهدة الوحي وترتيب الشريعة ووضع الأمور مواضعها والعلم بناسخ القرآن من منسوخه واستقر عليه آخر أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأن القياسين إذا تعارضا وجب أن يقدم أرجحهما على الآخر ويرجح قياس أهل المدينة أيضا بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» .