النهي ضد الأمر، فلما كان الأمر يدل على الجواز والصحة، وجب أن يدل النهي على عدمهما ووجوب ضدهما، وهو البطلان والفساد، وقيل: إنما يقتضيه بدليل الشرع، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:«من عمل عملا ليس على أمرنا فهو رد» . فوجب أن يرد كل بيع نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما لم تقترن به قرينة تدل على جوازه، وأما تفرقة ابن القاسم في رواية عيسى عنه، فلا يحملها القياس؛ لأنه جعل النهي مقتضيا للفساد في بيع الحاضر للبادي، ولم يجعله مقتضيا له في البيع من التلقي، فهي استحسان، ووجهها أن النهي عن أن يبيع حاضر لباد متناول للبيع نصا، والنهي عن تلقي الركبان لا يتناول البيع نصا، وإنما يتناوله بالمعنى، ولا يقوى المعنى قوة النص، مع أنه قد اختلف في فساد البيع بمجرد النص، وكذلك قول من قال: إن البيوع المطابقة للنهي دون أن يخل فيها شرط من شروط صحتها تفسخ ما لم تفت، فإن فاتت مضت بالثمن هو استحسان على غير قياس.
وتحصيل الاختلاف في هذا النوع من البيوع أن نقول فيها ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن البيع يفسخ فيها كلها. والثاني: أنه لا يفسخ في شيء منها. والثالث: أنه يفسخ فيما تناول النهي فيه منها البيع نصا، ولا يفسخ فيما تناوله منها بالمعنى.
واختلف على القول بأنه يفسخ إلى أي حد يفسخ؟ فقيل: إنه إنما يفسخ ما كان قائما، فإن فات بما يفوت به البيع الفاسد مضى بالثمن، وقيل: إنه يفسخ في القيام، ويرد إلى القيمة في الفوات، واختلف على القول بأنه لا يفسخ، هل يكون فيه حق لمن كان النهي بسببه أم لا؟ كالنهي عن تلقي الركبان، وعن أن يبيع حاضر لباد؛ لأن المعنى في النهي عن ذلك إنما هو الرفق على أهل الحاضرة عند مالك وجميع أصحابه. فقيل: إن له في ذلك حقا، وتعرض السلعة في التلقي على أهل الحاضرة في السوق بالثمن، فإن قبلوها وإلا ردت عليه،