للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

البخاري، وقال تعالى: ﴿وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ﴾ وقد قال بعض الشعراء في معجزات النبوة:

نسيج داود ما حمى صاحب الغار … وكان الفخار للعنكبوت

والمقصود المعجز في إلانة الحديد، وقد تقدم في السيرة عند ذكر حفر الخندق عام الأحزاب، في سنة أربع، وقيل: خمس، أنهم عرضت لهم كدية - وهي الصخرة في الأرض - فلم يقدروا على كسرها ولا شيء منها، فقام إليها رسول الله وقد ربط حجرا على بطنه من شدة الجوع - فضربها ثلاث ضربات، لمعت الأولى حتى أضاءت له منها قصور الشام، وبالثانية قصور فارس، وثالثة، ثم انسالت الصخرة كأنها كثيب من الرمل، ولا شك أن انسيال الصخرة التي لا تنفعل ولا بالنار، أعجب من لين الحديد الّذي إن أحمى لانه كما قال بعضهم:

فلو أن ما عالجت لين فؤادها * بنفسي للان الجندل

والجندل الصخر، فلو أن شيئا أشد قوة من الصخر لذكره هذا الشاعر المبالغ، قال الله تعالى:

﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ الآية. وأما قوله تعالى: ﴿قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ﴾ الآية، فذلك لمعنى آخر في التفسير، وحاصله أن الحديد أشد امتناعا في الساعة الراهنة من الحجر ما لم يعالج، فإذا عولج انفعل الحديد ولا ينفعل الحجر والله أعلم * وقال أبو نعيم: فأن قيل: فقد لين الله لداود الحديد حتى سرد منه الدروع السوابغ، قيل: لينت لمحمد الحجارة وصم الصخور، فعادت له غارا استتر به من المشركين، يوم أحد، مال إلى الجبل ليخفى شخصه عنهم فلين الجبل حتى أدخل رأسه فيه، وهذا أعجب لان الحديد تلينه النار، ولم نر النار تلين الحجر، قال: وذلك بعد ظاهر باق يراه الناس. قال: وكذلك في بعض شعاب مكة حجر من جبل في صلايه (١) إليه فلان الحجر حتى ادرأ فيه بذراعيه وساعديه، وذلك مشهور يقصده الحجاج ويرونه. وعادت الصخرة ليلة أسرى به كهيئة العجين، فربط بها دابته - البراق - وموضعه يمسونه الناس إلى يومنا هذا. وهذا الّذي أشار اليه، من يوم أحد وبعض شعاب مكة غريب جدا، ولعله قد أسنده هو فيما سلف، وليس ذلك بمعروف في السيرة المشهورة. وأما ربط الدابة في الحجر فصحيح، والّذي ربطها جبريل كما هو في صحيح مسلّم * وأما قوله: وأوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقد كانت الحكمة التي أوتيها محمد والشرعة التي شرعت له، أكمل من كل حكمة وشرعة كانت لمن قبله من الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، فأن الله جمع له محاسن من كان قبله، وفضله، وأكمله [وآتاه] ما لم يؤت أحدا قبله، وقد قال : أوتيت جوامع


(١) كذا بالأصل.

<<  <  ج: ص:  >  >>