والنفاق، ومساوى الأخلاق، والله إن كان أمركم ليهمني قبل أن آتى إليكم، ولقد كنت أدعو الله أن يبتليكم بى، ولقد سقط منى البارحة سوطي الّذي أؤدبكم به، فاتخذت هذا مكانه - وأشار إلى سيفه -، ثم قال: والله لآخذن صغيركم بكبيركم، وحركم بعبدكم، ثم لأرصعنكم رصع الحداد الحديدة، والخباز العجينة. فلما سمعوا كلامه جعل الحصى يتساقط من أيديهم، وقيل إنه دخل الكوفة في شهر رمضان ظهرا فأتى المسجد وصعد المنبر وهو معتجر بعمامة حمراء متلثم بطرفها، ثم قال: على بالناس! فظنه الناس وأصحابه من الخوارج فهموا به حتى إذا اجتمع الناس قام وكشف عن وجهه اللثام وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا … متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال: أما والله إني لأحمل الشيء بحمله، وأحذوه بنعله، وأحزمه بفتله، وإني لأرى رءوسا قد أينعت وآن اقتطافها، وإني لأنظر إلى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى، قد شمرت عن ساقها فشمرى، ثم أنشد: -
هذا أوان الشد فاشتدّي زيم … قد لفها الليل بسواق حطم
لست براعي إبل ولا غنم … ولا بجزّار على ظهر وضم
قد لفها الليل بعصلبى … أروع خراج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابي
ثم قال: إني والله يا أهل العراق ما أغمز بغماز، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فررت عن ذكاء وجربت من الغاية القصوى، وإن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان نثر كنانته ثم عجم عيدانها عودا عودا فوجدني أمرها عودا وأصلبها مغمزا فوجهني إليكم، فأنتم طالما رتعتم في أودية الفتن، وسلكتم سبيل الغي، واخترتم جدد الضلال، أما والله لألحونكم لحي العود، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، إني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أحلق إلا فريت، فإياي وهذه الجماعات وقيلا وقالا، والله لتستقيمن على سبيل الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده.
ثم قال: من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب - يعنى الذين كانوا قد رجعوا عنه لما سمعوا بموت بشر ابن مروان كما تقدم - سفكت دمه وانتهبت ماله، ثم نزل فدخل منزله ولم يزد على ذلك، ويقال إنه لما صعد المنبر واجتمع الناس تحته أطال السكوت حتى أن محمد بن عمير أخذ كفا من حصى وأراد أن يحصبه بها، وقال: قبحه الله ما أعياه وأذمه! فلما نهض الحجاج وتكلم بما تكلم به جعل الحصى يتناثر من يده وهو لا يشعر به، لما يرى من فصاحته وبلاغته. ويقال إنه قال في خطبته هذه: شاهت الوجوه إن الله ضرب ﴿مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ وأنتم أولئك فاستووا