فبينما شبيب على متن الجسر راكبا عَلَى حِصَانٍ لَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ فَرَسٌ أُنْثَى إذ نزا حصانه عليها وهو على الجسر فنزل حَافِرُ فَرَسِ شَبِيبٍ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ، فَقَالَ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، ثُمَّ انْغَمَرَ فِي الْمَاءِ ثُمَّ ارْتَفَعَ وهو يقول (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ٦: ٩٦) فغرق. فلما تحققت الخوارج سقوطه في الماء كبروا وانصرفوا ذاهبين متفرقين فِي الْبِلَادِ، وَجَاءَ أَمِيرُ جَيْشِ الْحَجَّاجِ فَاسْتَخْرَجَ شَبِيبًا مِنَ الْمَاءِ وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَشُقَّ صَدْرُهُ فَاسْتُخْرِجَ قَلْبُهُ فَإِذَا هُوَ مُجْتَمِعٌ صُلْبٌ كَأَنَّهُ صَخْرَةٌ، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهِ الأرض فيرتفع قَامَةَ الْإِنْسَانِ. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ قَدْ أَبْغَضُوهُ لِمَا أَصَابَ مِنْ عَشَائِرِهِمْ، فَلَمَّا تَخَلَّفَ فِي السَّاقَةِ اشْتَوَرُوا وَقَالُوا نَقْطَعُ الْجِسْرَ بِهِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَمَالَتِ السُّفُنُ بِالْجِسْرِ وَنَفَرَ فرسه فسقط في الماء فغرق، ونادوا غَرِقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَرَفَ جَيْشُ الْحَجَّاجِ ذَلِكَ فَجَاءُوا فَاسْتَخْرَجُوهُ، وَلَمَّا نُعِيَ شَبِيبٌ إِلَى أُمِّهِ قَالَتْ: صَدَّقْتُمْ إِنِّي كُنْتُ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ وأنا حامل به أنه قد خرج منها شهاب من نار فعلمت أن النار لا يطفئها إلا الماء، وأنه لَا يُطْفِئُهُ إِلَّا الْمَاءُ، وَكَانَتْ أُمُّهُ جَارِيَةٌ اسمها جهبرة، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، وَكَانَتْ مِنْ أَشْجَعِ النِّسَاءِ، تُقَاتِلُ مع ابنها في الحروب. وذكر ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهَا قُتِلَتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وكذلك قتلت زوجته غزالة، وكانت أيضا شديدة البأس تقاتل قتالا شديدا يعجز عنه الأبطال من الرجال، وكان الحجاج يَخَافُ مِنْهَا أَشَدَّ خَوْفٍ حَتَّى قَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ ... فَتْخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ
هَلَّا بَرَزْتَ إلى غزالة في الوغا ... بَلْ كَانَ قَلْبُكَ فِي جَنَاحَيْ طَائِرِ
قَالَ: وَقَدْ كَانَ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الصَّلْتِ بْنِ قيس بن شراحيل ابن صبرة بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ الشَّيْبَانِيُّ، يَدَّعِي الْخِلَافَةَ وَيَتَسَمَّى بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَهَرَهُ بِمَا قَهَرَهُ بِهِ مِنَ الْغَرَقِ لَنَالَ الْخِلَافَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا قَهَرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيِ الْحَجَّاجِ لما أرسل إليه عبد الملك بعسكر الشام لقتاله، وَلَمَّا أَلْقَاهُ جَوَادُهُ عَلَى الْجِسْرِ فِي نَهْرِ دُجَيْلٍ قَالَ لَهُ رَجُلٌ:
أَغَرَقًا يَا أَمِيرَ المؤمنين؟ قال (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ٦: ٩٦) قَالَ ثُمَّ أُخْرِجَ وَحُمِلَ إِلَى الْحَجَّاجِ فَأَمَرَ فَنُزِعَ قَلْبُهُ مِنْ صَدْرِهِ فَإِذَا هُوَ مِثْلُ الْحَجَرِ، وَكَانَ شَبِيبٌ رَجُلًا طَوِيلًا أَشْمَطَ جَعْدَا، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي يَوْمِ عِيدِ النَّحْرِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ أُمْسِكَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَحُمِلَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ فَقَالَ له أنت الْقَائِلَ:
فَإِنْ يَكُ مِنْكُمْ كَانَ مَرْوَانُ وَابْنُهُ ... وَعَمْرٌو وَمِنْكُمْ هَاشِمٌ وَحَبِيبُ
فَمِنَّا حُصَيْنٌ وَالْبَطِينُ وَقَعْنَبٌ ... وَمِنَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شَبِيبُ
فَقَالَ: إِنَّمَا قلت ومنا يا أمير المؤمنين شبيب. فأعجبه اعتذاره وأطلقه والله سبحانه أعلم.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا بَيْنَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ نَائِبِ الْحَجَّاجِ، وَبَيْنَ الْخَوَارِجِ مِنَ الْأَزَارِقَةِ وَأَمِيرِهِمْ قَطَرِيِّ بْنِ الفجاءة، وكان قطري أَيْضًا مِنَ الْفُرْسَانِ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ الْمَشْهُورِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute