للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قصر أقوام دينهم فحفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، فرحم الله ابن عبد العزيز. ما أحسن هذا القول الّذي ما يخرج إلا من قلب قد امتلأ بالمتابعة ومحبة ما كان عليه الصحابة، فمن الّذي يستطيع أن يقول مثل هذا من الفقهاء وغيرهم؟ فرحمه الله وعفا عنه.

وروى الخطيب البغدادي من طريق يعقوب بن سفيان الحافظ عن سعيد بن أبى مريم عن رشيد بن سعيد قال: حدثني عقيل عن شهاب عن عمر بن عبد العزيز. قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، ليس على أحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأى من خالفها، فمن اقتدى بما سبق هدى، ومن استبصر بها أبصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.

وأمر عمر بن عبد العزيز مناديه ذات يوم فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبهم فقال في خطبته: إني لم أجمعكم إلا أن المصدق منكم بما بين يديه من لقاء الله والدار الآخرة ولم يعمل لذلك ويستعد له أحمق، والمكذب له كافر. ثم تلا قوله تعالى أَلا إِنَّهُمْ في مِرْيَةٍ من لِقاءِ رَبِّهِمْ ٤١: ٥٤ وقوله تعالى وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ١٢: ١٠٦ وروى ابن أبى الدنيا عنه أنه أرسل أولاده مع مؤدب لهم إلى الطائف يعلمهم هناك، فكتب إليه عمر: بئس ما علّمت، إذ قدّمت إمام المسلمين صبيا لم يعرف النية [١]- أو لم تدخله النية- ذكره في كتاب النية له. وروى ابن أبى الدنيا في كتاب الرقة والبكاء، عن مولى لعمر بن عبد العزيز أنه قال له: يا بنى ليس الخير أن يسمع لك وتطاع، وإنما الخير أن تكون قد غفلت عن ربك عز وجل ثم أطعته، يا بنى لا تأذن اليوم لأحد على حتى أصبح ويرتفع النهار، فانى أخاف أن لا أعقل عن الناس ولا يفهمون عنى، فقال له مولاه: رأيتك البارحة بكيت بكاء ما رأيتك بكيت مثله، قال فبكى ثم قال: يا بنى إني والله ذكرت الوقوف بين يدي الله عز وجل. قال: ثم غشي عليه فلم يفق حتى علا النهار، قال: فما رأيته بعد ذلك متبسما حتى مات.

وقرأ ذات يوم وَما تَكُونُ في شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ من قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ من عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ١٠: ٦١ الآية، فبكى بكاء شديدا حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة فجلست تبكى لبكائه وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء ابنه عبد الملك فدخل عليهم وهم على تلك الحال، فقال له: يا أبة ما يبكيك؟ فقال: يا بنى خير، ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بنى لقد خشيت أن أهلك وأن أكون من أهل النار.

وروى ابن أبى الدنيا عن عبد الأعلى بن أبى عبد الله العنبري. قال: رأيت عمر بن عبد العزيز


[١] كذا بالأصول والظاهر أن فيه نقصا.

<<  <  ج: ص:  >  >>