ويستريح لنفسه. واستأذنت المنصور له أن يذهب إلى أبى مسلم فأذن له، وقال له: سلم عليه وقل له: إنا بالاشواق إليه. فسار ذلك الرجل - وهو سلمة بن فلان - (١) إلى أبى مسلم فأخبره باشتياق الخليفة إليه، فسره ذلك وانشرح، وإنما هو غرور ومكر به، فلما سمع أبو مسلم بذلك عجل السير إلى منيته، فلما قرب من المدائن أمر الخليفة القواد والأمراء أن يتلقوه، وكان دخوله على المنصور من آخر ذلك اليوم، وقد أشار أبو أيوب على المنصور أن يؤخر قتله في ساعته هذه إلى الغد، فقبل ذلك منه. فلما دخل أبو مسلم على المنصور من العشي أظهر له الكرامة والتعظيم، ثم قال: اذهب فأرح نفسك وادخل الحمام، فإذا كان الغد فأتنى. فخرج من عنده وجاءه الناس يسلمون عليه، فلما كان الغد طلب الخليفة بعض الأمراء فقال له: كيف بلائي عندك؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين لو أمرتنى أن أقتل نفسي لقتلتها. قال: فكيف بك لو أمرتك بقتل أبى مسلم؟ قال: فوجم ساعة ثم قال له أبو أيوب: مالك لا تتكلم؟ فقال قولة ضعيفة: أقتله. ثم اختار له من عيون الحرس أربعة فحرضهم على قتله، وقال لهم: كونوا من وراء الرواق فإذا صفقت بيدي فاخرجوا عليه فاقتلوه. ثم أرسل المنصور إلى أبى مسلم رسلا تترى يتبع بعضها بعضا، فأقبل أبو مسلم فدخل دار الخلافة ثم دخل على الخليفة وهو يبتسم، فلما وقف بين يديه جعل المنصور يعاتبه في الّذي صنع واحدة واحدة، فيعتذر عن ذلك كله. ثم قال: يا أمير المؤمنين أرجو أن تكون نفسك قد طابت عليّ. فقال المنصور: أما والله ما زادني هذا إلا غيظا عليك. ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى فخرج عثمان وأصحابه فضربوه بالسيوف حتى قتلوه ولفوه في عباءة ثم أمر بإلقائه في دجلة، وكان آخر العهد به، وكان مقتله في يوم الأربعاء لأربع بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة.
وكان من جملة ما عاتبه به المنصور ان قال: كتبت إلى مرات تبدأ بنفسك، وأرسلت تخطب عمتي أمينة، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس إلى غير ذلك. فقال أبو مسلم: يا أمير المؤمنين لا يقال لي هذا وقد سعيت في أمركم بما علمه كل أحد. فقال: ويلك! لو قامت في ذلك أمة سوداء لأتمه الله لجدنا وحيطتنا. ثم قال: والله لأقتلنك. فقال: استبقني يا أمير المؤمنين لأعدائك.
فقال: وأي عدو لي أعدى منك. ثم أمر بقتله كما تقدم: فقال له بعض الأمراء: يا أمير المؤمنين الآن صرت خليفة. ويقال إن المنصور أنشد عند ذلك:
فألقت عصاها واستقر بها النوى … كما قرّ عينا بالإياب المسافر
وذكر ابن خلكان أن المنصور لما أراد قتل أبى مسلم تحير في أمره هل يستشير أحدا في ذلك أو يستبد هو به لئلا يشيع وينشر، ثم استشار واحدا من نصحاء أصحابه فقال: يا أمير المؤمنين
(١) كذا بالأصلين. وفي الطبري: سلمة بن سعيد بن جابر.