عش ما بدا لك سالما … في ظل شاهقة القصور
تسعى عليك بما اشتهيت … لدى الرواح إلى البكور
فإذا النفوس تقعقعت … عن ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنا … ما كنت إلا في غرور
قال: فبكى الرشيد بكاء كثيرا شديدا. فقال له الفضل بن يحيى: دعاك أمير المؤمنين تسره فأحزنته؟ فقال له الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمر فكره أن يزيدنا عمى. ومن وجه آخر أن الرشيد قال لأبى العتاهية: عظني بأبيات من الشعر وأوجز فقال: -
لا تأمن الموت في طرف ولا نفس … ولو تمتعت بالحجاب والحرس
واعلم بأن سهام الموت صائبة … لكل مدرع منها ومتّرس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها … إن السفينة لا تجرى على اليبس
قال: فخر الرشيد مغشيا عليه. وقد حبس الرشيد مرة أبا العتاهية وأرصد عليه من يأتيه بما يقول، فكتب مرة على جدار الحبس:
أما والله إن الظلم شوم … وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي … وعند الله تجتمع الخصوم
قال: فاستدعاه واستجعله في حل ووهبه ألف دينار وأطلقه. وقال الحسن بن أبى الفهم: ثنا محمد بن عباد عن سفيان بن عيينة قال: دخلت على الرشيد فقال: ما خبرك؟ فقلت:
بعين الله ما تخفى البيوت … فقد طال التحمل والسكوت
فقال: يا فلان مائة ألف لابن عيينة تغنيه وتغني عقبه، ولا تضر الرشيد شيئا. وقال الأصمعي:
كنت مع الرشيد في الحج فمررنا بواد فإذا على شفيره امرأة حسناء بين يديها قصعة وهي تسأل منها وهي تقول: -
طحطحتنا طحاطح الأعوام … ورمتنا حوادث الأيام
فأتيناكم نمد أكفّا … نائلات لزادكم والطعام
فاطلبوا الأجر والمثوبة فينا … أيها الزائرون بيت الحرام
من رآني فقد رآني ورحلي … فارحموا غربتي وذل مقامي
قال الأصمعي: فذهبت إلى الرشيد فأخبرته بأمرها فجاء بنفسه حتى وقف عليها فسمعها فرحمها وبكى وأمر مسرورا الخادم أن يملأ قصعتها ذهبا، فملأها حتى جعلت تفيض يمينا وشمالا. وسمع مرة الرشيد أعرابيا يحدو إبله في طريق الحج: