الْمُتَوَكِّلَ ذَلِكَ وَعَلِمَ بَرَاءَتَهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ علم أن يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ كَثِيرًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَعْقُوبَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفَ بِقَوْصَرَةَ- وَهُوَ أَحَدُ الْحَجَبَةِ- بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَقَالَ: هُوَ يَقْرَأُ عليك السلام ويقول: اسْتَنْفَقَ هَذِهِ، فَامْتَنَعَ مَنْ قَبُولِهَا. فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّي أَخْشَى مِنْ رَدِّكَ إِيَّاهَا أَنْ يَقَعَ وَحْشَةٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَالْمَصْلَحَةُ لكل قَبُولُهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَهُ ثُمَّ ذَهَبَ فَلَمَّا كَانَ من آخر الليل استدعى أَحْمَدُ أَهْلَهُ وَبَنِي عَمِّهِ وَعِيَالَهُ وَقَالَ: لَمْ أَنَمْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، فَجَلَسُوا وَكَتَبُوا أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَفَرَّقَهَا فِي النَّاسِ مَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ إلى المائة والمائتين، فلم يبق منها درهما، وأعطى منها لأبى أيوب وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ، وَتَصَدَّقَ بِالْكِيسِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَلَمْ يُعْطِ مِنْهَا لِأَهْلِهِ شَيْئًا وَهُمْ في غاية الفقر والجهد، وجاء بنو ابْنِهِ فَقَالَ: أَعْطِنِي دِرْهَمًا. فَنَظَرَ أَحْمَدُ إِلَى ابْنِهِ صَالِحٍ فَتَنَاوَلَ صَالِحٌ قِطْعَةً فَأَعْطَاهَا الصَّبِيَّ فسكت أحمد.
وبلغ الخليفة أنه تصدق بالجائزة كلها حتى كيسها، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَدْ قَبِلَهَا مِنْكَ وَتَصَدَّقَ بِهَا عَنْكَ، وماذا يَصْنَعُ أَحْمَدُ بِالْمَالِ؟ إِنَّمَا يَكْفِيهِ رَغِيفٌ. فَقَالَ: صَدَقْتَ.
فَلَمَّا مَاتَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا الْقَرِيبُ، وَتَوَلَّى نيابة بغداد عبد الله ابن إِسْحَاقَ، كَتَبَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ، فَقَالَ لِأَحْمَدَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ وَضَعِيفٌ، فَرَدَّ الْجَوَابَ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ يَعْزِمُ عَلَيْهِ لَتَأْتِيَنِّي، وَكَتَبَ إلى أحمد: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ آنَسَ بِقُرْبِكَ وَبِالنَّظَرِ إِلَيْكَ، وَيَحْصُلَ لِي بَرَكَةُ دُعَائِكَ. فَسَارَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ- وَهُوَ عَلِيلٌ- فِي بَنِيهِ وَبَعْضِ أَهْلِهِ، فَلَمَّا قَارَبَ الْعَسْكَرَ تَلَقَّاهُ وَصِيفٌ الْخَادِمُ فِي مَوْكِبٍ عَظِيمٍ، فَسَلَّمَ وَصِيفٌ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ فرد السلام وقال لَهُ وَصِيفٌ: قَدْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْ عَدُوِّكَ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا، وَجَعَلَ ابْنُهُ يَدْعُو اللَّهَ لِلْخَلِيفَةِ وَلِوَصِيفٍ. فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْعَسْكَرِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، أُنْزِلَ أَحْمَدُ فِي دَارِ إِيتَاخَ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ ارْتَحَلَ مِنْهَا وَأَمَرَ أَنْ يُسْتَكْرَى لَهُ دَارٌ غَيْرُهَا. وَكَانَ رُءُوسُ الْأُمَرَاءِ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَحْضُرُونَ عِنْدَهُ وَيُبَلِّغُونَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ السَّلَامَ، وَلَا يدخلون عليه حتى يقلعون مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الزِّينَةِ وَالسِّلَاحِ. وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بِالْمَفَارِشِ الْوَطِيئَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي تَلِيقُ بِتِلْكَ الدَّارِ الْعَظِيمَةِ، وَأَرَادَ مِنْهُ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُقِيمَ هُنَاكَ لِيُحَدِّثَ النَّاسَ عِوَضًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنْهُ فِي أَيَّامِ الْمِحْنَةِ وَمَا بَعْدَهَا من السنين المتطاولة، فاعتذر إليه بِأَنَّهُ عَلِيلٌ وَأَسْنَانُهُ تَتَحَرَّكُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَكَانَ الْخَلِيفَةُ يَبْعَثُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَائِدَةً فِيهَا أَلْوَانُ الْأَطْعِمَةِ وَالْفَاكِهَةِ وَالثَّلْجُ، مِمَّا يُقَاوِمُ مِائَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ يَوْمِ، وَالْخَلِيفَةُ يَحْسَبُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ أحمد يأكل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ كَانَ صَائِمًا يَطْوِي، فَمَكَثَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَسْتَطْعِمْ بِطَعَامٍ، ومع ذلك هو مريض، ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَيْهِ وَلَدُهُ حَتَّى شَرِبَ قَلِيلًا مِنَ السَّوِيقِ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ. وَجَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ بِمَالٍ جَزِيلٍ من الخليفة جائزة له فامتنع
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute