للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طاعته فطلبه فكبس منزله فأخذه فَأَقَرَّ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ، وَوَجَدَ فِي منزله أشياء بخط الحلاج مكتوبة بِمَاءِ الذَّهَبِ فِي وَرَقِ الْحَرِيرِ مُجَلَّدَةً بِأَفْخَرِ الْجُلُودِ. وَوَجَدَ عِنْدَهُ سَفَطًا فِيهِ مِنْ رَجِيعِ الحلاج وعذرته وَبَوْلِهِ وَأَشْيَاءَ مِنْ آثَارِهِ، وَبَقِيَّةِ خُبْزٍ مِنْ زَادِهِ. فَطَلَبَ الْوَزِيرُ مِنَ الْمُقْتَدِرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَمْرِ الْحَلَّاجِ فَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، فَاسْتَدْعَى بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ فَتَهَدَّدَهُمْ فَاعْتَرَفُوا لَهُ أنه قد صح عندهم أنه إله مع الله، وأنه يحيى الموتى، وأنهم كاشفوا الحلاج بذلك ورموه به في وجهه، فَجَحَدَ ذَلِكَ وَكَذَّبَهُمْ وَقَالَ: أَعُوذُ باللَّه أَنْ أَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ أَوِ النُّبُوَّةَ، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير، لا أَعْرِفُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَجَعَلَ لَا يَزِيدُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَالتَّوْحِيدِ، وَيُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:

سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. وَكَانَتْ عَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ سَوْدَاءُ وَفِي رِجْلَيْهِ ثلاثة عشر قيدا، والمدرعة واصلة إلى ركبتيه، والقيود واصلة إلى ركبتيه أيضا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ.

وَكَانَ قَبْلَ احْتِيَاطِ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَلَيْهِ فِي حُجْرَةٍ مِنْ دَارِ نَصْرٍ الْقُشُورَيِّ الْحَاجِبِ، مَأْذُونًا لِمَنْ يَدْخُلُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ تَارَةً بِالْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَتَارَةً مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الْفَارِسِيَّ، وَكَانَ نَصْرٌ الْحَاجِبُ هَذَا قَدِ افْتُتِنَ بِهِ وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَكَانَ قَدْ أَدْخَلَهُ عَلَى المقتدر باللَّه فرقاه من وجع حصل له فاتفق زواله عنه، وكذلك وقع لوالدة المقتدر السيدة رقاها فزالت عنها، فَنَفَقَ سُوقُهُ وَحَظِيَ فِي دَارِ السُّلْطَانِ. فَلَمَّا انْتَشَرَ الْكَلَامُ فِيهِ سُلِّمَ إِلَى الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ فَحَبَسَهُ فِي قُيُودٍ كَثِيرَةٍ فِي رِجْلَيْهِ، وَجَمَعَ لَهُ الْفُقَهَاءَ فَأَجْمَعُوا عَلَى كُفْرِهِ وَزَنْدَقَتِهِ، وَأَنَّهُ سَاحِرٌ مُمَخْرِقٌ. وَرَجَعَ عَنْهُ رَجُلَانِ صَالِحَانِ مِمَّنْ كَانَ اتَّبَعَهُ أَحَدُهُمَا أَبُو عَلِيٍّ هارون بن عبد العزيز الأوارجي، والآخر يقال له الدباس، فذكروا من فضائحه وما كان يدعو الناس إليه مِنَ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَالْمَخْرَقَةِ وَالسِّحْرِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ أُحْضِرَتْ زَوْجَةُ ابْنِهِ سُلَيْمَانَ فَذَكَرَتْ عَنْهُ فَضَائِحَ كَثِيرَةً. مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَغْشَاهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ فَانْتَبَهَتْ فَقَالَ: قُومِي إِلَى الصلاة، وإنما كان يريد أن يطأها. وأمر ابنتها بالسجود له فقالت: أو يسجد بِشَرٌ لِبَشَرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إِلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ من تحت بارية هنالك ما أرادت، فَوَجَدَتْ تَحْتَهَا دَنَانِيرَ كَثِيرَةً مَبْدُورَةً. وَلَمَّا كَانَ معتقلا في دار حامد بن العباس الوزير دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْغِلْمَانِ وَمَعَهُ طَبَقُ فِيهِ طَعَامٌ لِيَأْكُلَ مِنْهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ مَلَأَ الْبَيْتَ مِنْ سَقْفِهِ إِلَى أَرْضِهِ، فَذُعِرَ ذَلِكَ الْغُلَامُ وفزع فزعا شديدا، وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ ذَلِكَ الطَّبَقِ وَالطَّعَامِ، وَرَجَعَ مَحْمُومًا فَمَرِضَ عِدَّةَ أَيَّامٍ.

ولما كان آخر مجلس من مجالسه أُحْضِرَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ وَجِيءَ بِالْحَلَّاجِ وَقَدْ أُحْضِرَ لَهُ كِتَابٌ مِنْ دُورِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَفِيهِ: مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَلْيَبْنِ فِي دَارِهِ بَيْتًا لَا يَنَالُهُ شَيْءٌ مِنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>