بغداد سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم خرج منها طريدا منهزما، لأنه سأل سؤالا بشعر يدل على قلة دينه وعلمه وعقله فقال:
تناقض فما لنا إلا السكوت له … وأن نعوذ بمولانا من النار
يد بخمس مئين عسجد وديت … ما بالها قطعت في ربع دينار
وهذا من إفكه يقول: اليد ديتها خمسمائة دينار، فما لكم تقطعونها إذا سرقت ربع دينار، وهذا من قلة عقله وعلمه، وعمى بصيرته. وذلك أنه إذا جنى عليها يناسب أن يكون ديتها كثيرة لينزجر الناس عن العدوان، وأما إذا جنت هي بالسرقة فيناسب أن تقل قيمتها وديتها لينزجر الناس عن أموال الناس وتصان أموالهم، ولهذا قال بعضهم: كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت.
ولما عزم الفقهاء على أخذه بهذا وأمثاله هرب ورجع إلى بلده، ولزم منزله فكان لا يخرج منه. وكان يوما عند الخليفة وكان الخليفة يكره المتنبي ويضع منه، وكان أبو العلاء يحب المتنبي ويرفع من قدره ويمدحه، فجرى ذكر المتنبي في ذلك المجلس فذمه الخليفة، فقال أبو العلاء: لو لم يكن للمتنبي إلا قصيدته التي أولها
لك يا منازل في القلوب منازل
لكفاه ذلك. فغضب الخليفة وأمر به فسحب برجله على وجهه وقال: أخرجوا عنى هذا الكلب. وقال الخليفة: أتدرون ما أراد هذا الكلب من هذه القصيدة؟ وذكره لها؟ أراد قول المتنبي فيها:
وإذا أتتك مذمتى من ناقص … فهي الدليل على أنى كامل
وإلا فالمتنبى له قصائد أحسن من هذه، وإنما أراد هذا. وهذا من فرط ذكاء الخليفة، حيث تنبه لهذا. وقد كان المعرى أيضا من الأذكياء، ومكث المعرى خمسا وأربعين سنة من عمره لا يأكل اللحم ولا اللبن ولا البيض، ولا شيئا من حيوان، على طريقة البراهمة الفلاسفة، ويقال إنه اجتمع براهب في بعض الصوامع في مجيئه من بعض السواحل آواه الليل عنده، فشكّكه في دين الإسلام، وكان يتقوت بالنبات وغيره، وأكثر ما كان يأكل العدس ويتحلى بالدبس وبالتين، وكان لا يأكل بحضرة أحد، ويقول: أكل الأعمى عورة، وكان في غاية الذكاء المفرط، على ما ذكروه، وأما ما ينقلونه عنه من الأشياء المكذوبة المختلقة من أنه وضع تحت سريره درهم فقال: إما أن تكون السماء قد انخفضت مقدار درهم أو الأرض قد ارتفعت مقدار درهم، أي أنه شعر بارتفاع سريره عن الأرض مقدار ذلك الدرهم الّذي وضع تحته، فهذا لا أصل له. وكذلك يذكرون عنه أنه مر في بعض أسفاره بمكان فطأطأ رأسه فقيل له في ذلك فقال: أما هنا شجرة؟ قالوا: لا، فنظروا فإذا أصل شجرة كانت هناك في الموضع الّذي طأطأ رأسه فيه، وقد قطعت، وكان قد اجتاز بها قديما مرة فأمره من كان معه بمطأطأة رأسه لما جازوا تحتها، فلما مر بها المرة الثانية طأطأ رأسه خوفا من أن يصيبه شيء منها، فهذا