للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْخُمُورُ وَالطُّبُولُ وَالزَّمُورُ؟ وَيُقَالُ إِنَّ سَبَبَ وَضْعِهِ المكوس عن البلاد أن الواعظ أبا عثمان المنتخب ابن أَبِي مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيَّ- وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ، وكان هذا الرجل ليس له شيء ولا يقبل من أحد شيئا، إنما كانت له جبة يلبسها إذا خرج إلى مجلس وعظه، وكان يجتمع في مجلس وعظه الألوف من الناس- أنشد نور الدين أبياتا تتضمن ما هو متلبس به في ملكه، وفيها تخويف وتحذير شديد له: -

مَثِّلْ وُقُوفَكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ

إِنْ قِيلَ نُورُ الدِّينِ رُحْتَ مُسَلِّمًا ... فاحذر بأن تبقى ومالك نور

أنهيت عن شرب الخمور وأنت في ... كأس المظالم طائش مَخْمُورُ

عَطَّلْتَ كَاسَاتِ الْمُدَامِ تَعَفُّفًا ... وَعَلَيْكَ كَاسَاتُ الْحَرَامِ تَدُورُ

مَاذَا تَقُولُ إِذَا نُقِلْتَ إِلَى البلى ... فردا وجاءك منكر ونكير؟

ماذا تقول إذا وقفت بموقف ... فردا ذليلا والحساب عسير؟

وَتَعَلَّقَتْ فَيكَ الْخُصُومُ وَأَنْتَ فِي ... يَوْمِ الْحِسَابِ مسلسل مَجْرُورُ

وَتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الْجُنُودُ وَأَنْتَ فِي ... ضِيقِ القبور مُوَسَّدٌ مَقْبُورُ

وَوَدِدْتَ أَنَّكَ مَا وَلِيتَ وِلَايَةً ... يَوْمًا وَلَا قَالَ الْأَنَامُ أَمِيرُ

وَبَقِيُتَ بَعْدَ الْعِزِّ رَهْنَ حُفَيْرَةٍ ... فِي عَالَمِ الْمَوْتَى وَأَنْتَ حقير

وحشرت عريانا حزينا باكيا ... قلقا ومالك فِي الْأَنَامِ مُجِيرُ

أَرَضِيتَ أَنْ تَحْيَا وَقَلْبُكَ دَارِسٌ ... عَافِي الْخَرَابِ وَجِسْمُكَ الْمَعْمُورُ

أَرَضِيتَ أَنْ يحظى سواك بقربة ... أبدا وأنت معذّب مَهْجُورُ

مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا ... يَوْمَ المعاد ويوم تبدو العور

فلما سمع نور الدين هذه الأبيات بكى بكاء شديدا، وأمر بوضع المكوس والضرائب في سائر البلاد. وكتب إليه الشيخ عمر الملا من الموصل- وكان قد أمر الولاة والأمراء بِهَا أَنْ لَا يَفْصِلُوا بِهَا أَمْرًا حَتَّى يعلموا الملا به، فَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ شَيْءٍ امْتَثَلُوهُ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الزَّاهِدِينَ، وَكَانَ نُورُ الدِّينِ يَسْتَقْرِضُ منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه جميع رمضان- فكتب إليه الشيخ عمر بن الملا هذا: إن المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سِيَاسَةٍ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجِيءُ إِلَّا بِقَتْلٍ وصلب وضرب، وإذا أخذ إنسان في البرية من يجيء يشهد له؟ فكتب إليه الملك نور الدين على ظهر كتابه: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَشَرَعَ لَهُمْ شَرِيعَةً وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة بنا إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى

<<  <  ج: ص:  >  >>