فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه، فما أمر به امتثلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا أعلم أنه لاحق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أنى قد ملكته ذلك الّذي ادعى به ووهبته له. قال ابن الأثير: وهو أول من ابتنى دارا للعدل، وكان يجلس فيها في الأسبوع مرتين، وقيل أربع مرات، وقيل خمس. ويحضر القاضي والفقهاء من سائر المذاهب، ولا يحجبه يومئذ حاجب ولا غيره بل يصل إليه القوى والضعيف، فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه، فيكشف المظالم، وينصف المظلوم من الظالم، وكان سبب ذلك أن أسد الدين شيركوه بن شادى كان قد عظم شأنه عند نور الدين، حتى صار كأنه شريكه في المملكة، واقتنى الأملاك والأموال والمزارع والقرى، وكان ربما ظلم نوابه جيرانه في الأراضي والأملاك العدل، وكان القاضي كمال الدين ينصف كل من استعداه على جميع الأمراء إلا أسد الدين هذا فما كان يهجم عليه، فلما ابتنى نور الدين دار العدل تقدم أسد الدين إلى نوابه أن لا يدعوا لأحد عنده ظلامة، وإن كانت عظيمة، فان زوال ماله عنده أحب إليه من أن يراه نور الدين بعين ظالم، أو يوقفه مع خصم من العامة، ففعلوا ذلك، فلما جلس نور الدين بدار العدل مدة متطاولة ولم ير أحدا يستعدى على أسد الدين، سأل القاضي عن ذلك فأعلمه بصورة الحال، فسجد نور الدين شكرا لله، وقال الحمد لله الّذي أصحابنا ينصفون من أنفسهم.
وأما شجاعته فيقال: إنه لم ير على ظهر فرس قط أشجع ولا أثبت منه، وكان حسن اللعب بالكرة وكان ربما ضربها ثم يسوق وراءها ويأخذها من الهوى بيده، ثم يرميها إلى آخر الميدان، ولم ير جوكانه يعلو على رأسه، ولا يرى الجو كان في يده، لأن الكم ساتر لها، ولكنه استهانة بلعب الكرة، وكان شجاعا صبورا في الحرب، يضرب المثل به في ذلك، وكان يقول: قد تعرضت للشهادة غير مرة فلم يتفق لي ذلك، ولو كان في خير ولى عند الله قيمة لرزقنيها، والأعمال بالنية. وقال له يوما قطب الدين النيسابورىّ: بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين. فقال: له اسكت يا قطب الدين فان قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود؟ من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الّذي لا إله إلا هو؟ ومن هو محمود؟ قال فبكى من كان حاضرا ﵀.
وقد أسر بنفسه في بعض الغزوات بعض ملوك الافرنج فاستشار الأمراء فيه هل يقتله أو يأخذ ما يبذل له من المال؟ وكان قد بذل له في فداء نفسه مالا كثيرا، فاختلفوا عليه ثم حسن في رأيه إطلاقه وأخذ الفداء منه، فبعث إلى بلده من خلاصته من يأتيه بما افتدى به نفسه، فجاء به سريعا فأطلقه نور الدين، فحين وصل إلى بلاده مات ذلك الملك ببلده، فأعجب ذلك نور الدين وأصحابه، وبنى من ذلك المال المارستان الّذي بدمشق، وليس له في البلاد نظير، ومن شرطه أنه على الفقراء والمساكين