عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ ضَرَبَ دِهْلِيزَهُ وَسَاقَ خَلْفَ أَرْنَبٍ، وَسَاقَ مَعَهُ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءُ فَشَفَعَ عِنْدَهُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ فِي شَيْءٍ فَشَفَّعَهُ، فَأَخَذَ يَدَهُ لِيُقَبِّلَهَا فَأَمْسَكَهَا وحمل عليه أولئك الأمراء بالسيوف فضربوه بها، وألقوه عن فرسه ورشقوه بالنشاب حتى قتلوه رحمه الله، ثُمَّ كَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى الْمُخَيَّمِ وَبِأَيْدِيهِمُ السُّيُوفُ مُصْلَتَةٌ، فَأَخْبَرُوا مَنْ هُنَاكَ بِالْخَبَرِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ من قتله؟ فقالوا: ركن الدين بيبرس، فقالوا أنت قتلته؟ فقال نعم، فقالوا أنت الملك إذا، وَقِيلَ لَمَّا قُتِلَ حَارَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَهُمْ فِيمَنْ يُوَلُّونَ الْمُلْكَ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخْشَى غَائِلَةَ ذَلِكَ، وَأَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ غَيْرَهُ سريعا، فاتفقت كلمتهم على أن بايعوا بيبرس البندقداري، ولم يكن هو من أكابر المقدمين، وَلَكِنْ أَرَادُوا أَنْ يُجَرِّبُوا فِيهِ، وَلَقَّبُوهُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ، فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ وَحَكَمَهُ، وَدَقَّتِ البشائر وضربت الطبول والبوقات وصفرت الشغابة، وَزَعَقَتِ الشَّاوُوشِيَّةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا وَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَاسْتَعَانَ بِهِ، ثُمَّ دَخَلَ مِصْرَ وَالْعَسَاكِرُ فِي خِدْمَتِهِ، فَدَخَلَ قَلْعَةَ الْجَبَلِ وجلس على كرسيها، فحكم وعدل وقطع ووصل وولى وعزل، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا أَقَامَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ لِشِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الشَّدِيدِ وَالْأَمْرِ العسير، وكان أولا لَقَّبَ نَفْسَهُ بِالْمَلِكِ الْقَاهِرِ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إن هذا اللقب لا يفلح من يلقب به. تلقب به القاهر بن المعتمد فلم تطل أيامه حتى خلع وسملت عيناه، وَلُقِّبَ بِهِ الْقَاهِرُ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ فَسُمَّ فَمَاتَ، فعدل عنه حينئذ إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسْكِ مَنْ يَرَى فِي نَفْسِهِ رِئَاسَةً مَنْ أَكَابِرِ الأمراء حتى مهد الملك. وقد كان هولاكوخان لما بلغه ما جرى على جيشه من المسلمين بعين جالوت أرسل جماعة من جيشه الذين معه كثيرين ليستعيدوا الشام من أيدي المسلمين، فحيل بينهم وبين ما يشتهون فرجعوا إليه خائبين خاسرين، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَهَضَ إِلَيْهِمُ الْهِزَبْرُ الْكَاسِرُ وَالسَّيْفُ الباتر الملك الظاهر، فقدم دمشق وأرسل العساكر في كل وجه لحفظ الثغور والمعاقل بالأسلحة، فلم يقدر التتار على الدنو إليه، وَوَجَدُوا الدَّوْلَةَ قَدْ تَغَيَّرَتْ، وَالسَّوَاعِدَ قَدْ شُمِّرَتْ، وعناية الله بالشام وأهله قد حصلت، ورحمته بهم قد نزلت، فعند ذلك نكصت شياطينهم على أعقابهم، وكروا راجعين القهقرى، والحمد للَّه الّذي بنعمته تتم الصالحات. وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَنَابَ عَلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ سَنْجَرَ الْحَلَبِيَّ أَحَدَ الْأَتْرَاكِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ الْمُظَفَّرِ دَخَلَ الْقَلْعَةَ وَدَعَا لِنَفْسِهِ وَتَسَمَّى بِالْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْبَيْعَةُ لِلْمَلِكِ الظَّاهِرِ خُطَبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّادِسَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَدَعَا الْخَطِيبُ أَوَّلًا لِلْمُجَاهِدِ ثُمَّ لِلظَّاهِرِ ثَانِيًا وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِمَا مَعًا، ثُمَّ ارْتَفَعَ الْمُجَاهِدُ هَذَا مِنَ الْبَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَدِ اتَّفَقَ فِي هَذَا الْعَامِ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ، وَهِيَ أَنَّ أَوَّلَ هذه السنة كانت الشام للسلطان الناصر ابن الْعَزِيزِ، ثُمَّ فِي النِّصْفِ مِنْ صِفْرٍ صَارَتْ لهولاكو مَلِكِ التَّتَارِ، ثُمَّ فِي آخِرِ رَمَضَانَ صَارَتْ للمظفر قطز
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute