وامتلأ الجامع أيضا وصحنه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووضعت في الجامع، والجند قد احتاطوا بها يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصلى عليه أولا بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه أولا الشيخ محمد بن تمام، ثم صلى عليه بالجامع الأموي عقيب صلاة الظهر، وقد تضاعف اجتماع الناس على ما تقدم ذكره، ثم تزايد الجمع إلى أن ضاقت الرحاب والأزقة والأسواق بأهلها ومن فيها، ثم حمل بعد أن صلى عليه على الرءوس والأصابع، وخرج النعش به من باب البريد واشتد الزحام وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب والترحم عليه والثناء والدعاء له، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم وثيابهم، وذهبت النعال من أرجل الناس وقباقيبهم ومناديل وعمائم لا يلتفتون إليها لشغلهم بالنظر إلى الجنازة، وصار النعش على الرءوس تارة يتقدم وتارة يتأخر، وتارة يقف حتى تمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدة الزحام فيها، لكن كان معظم الزحام من الأبواب الأربعة: باب الفرج الّذي أخرجت منه الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية. وعظم الأمر بسوق الخيل وتضاعف الخلق وكثر الناس، ووضعت الجنازة هناك وتقدم للصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرحمن، فلما قضيت الصلاة حمل إلى مقبرة الصوفية فدفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله رحمهما الله، وكان دفنه قبل العصر بيسير، وذلك من كثرة من يأتى ويصلى عليه من أهل البساتين وأهل الغوطة وأهل القرى وغيرهم، وأغلق الناس حوانيتهم ولم يتخلف عن الحضور إلا من هو عاجز عن الحضور، مع الترحم والدعاء له، وأنه لو قدر ما تخلف، وحضر نساء كثيرات بحيث حزرن بخمسة عشر ألف امرأة، غير اللاتي كن على الأسطحة وغيرهن، الجميع يترحمن ويبكين عليه فيما قيل. وأما الرجال فحزروا بستين ألفا إلى مائة ألف إلى أكثر من ذلك إلى مائتي ألف وشرب جماعة الماء الّذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الّذي غسل به، ودفع في الخيط الّذي كان فيه الزئبق الّذي كان في عنقه بسبب القمل مائة وخمسون درهما، وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهما. وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء كثير، وتضرع وختمت له ختمات كثيرة بالصالحية وبالبلد، وتردد الناس إلى قبره أياما كثيرة ليلا ونهارا يبيتون عنده ويصبحون، ورئيت له منامات صالحة كثيرة، ورثاه جماعة بقصائد جمة.
وكان مولده يوم الاثنين عاشر ربيع الأول بحران سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، فسمع الحديث من ابن عبد الدائم وابن أبى اليسر وابن عبدان والشيخ شمس الدين الحنبلي، والشيخ شمس الدين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدين بن الصيرفي، ومجد الدين