قلت: قد روى عنه غير واحد منهم الفضل بن موسى السينانى ومحمد بن سلام البيكندي، ومع هذا قال ابن عدي ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة. وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله ﷺ والدفع عنه وعن أصحابه وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودة والمحبة والشفقة في اشعاره التي أسلفناها وما تضمنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تدانى ولا تسامى، ولا يمكن عربيا مقاربتها ولا معارضتها، وهو في ذلك كله يعلم أن رسول الله ﷺ صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه. وفرق بين علم القلب وتصديقه كما قررنا ذلك في شرح كتاب الايمان من صحيح البخاري، وشاهد ذلك قوله تعالى ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ وقال تعالى في قوم فرعون ﴿وَجَحَدُوا بِها وَاِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ﴾ وقال موسى لفرعون ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً﴾ وقول بعض السلف في قوله تعالى ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ أنها نزلت في أبى طالب حيث كان ينهى الناس عن أذية رسول الله ﷺ وينأى هو عما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق. فقد روى عن ابن عباس، والقاسم بن مخيمرة، وحبيب ابن أبى ثابت، وعطاء بن دينار، ومحمد بن كعب، وغيرهم، ففيه نظر والله أعلم. والأظهر والله أعلم الرواية الأخرى عن ابن عباس، وهم ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به. وبهذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وغير واحد - وهو اختيار ابن جرير - وتوجيهه أن هذا الكلام سيق لتمام ذم المشركين حيث كانوا يصدون الناس عن اتباعه ولا ينتفعون هم أيضا به. ولهذا قال ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ﴾ وهذا اللفظ وهو قوله (وهم) يدل على أن المراد بهذا جماعة وهم المذكورون في سياق الكلام وقوله ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ﴾ يدل على تمام الذم. وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله ﷺ وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال، ونفس ومال. ولكن مع هذا لم يقدر الله له الايمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة، والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الايمان بها والتسليم لها، ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لأبي طالب وترحمنا عليه.