بعض أهل السير أن أبا بكر لما قال ذلك قال النبي ﷺ:«لو جاءونا من هاهنا لذهبنا من هنا» فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر، وإذا البحر قد اتصل به، وسفينة مشدودة إلى جانبه. وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك باسناد قوى ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا، ولكن ما صح أو حسن سنده قلنا به والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا الفضل بن سهل ثنا خلف بن تميم ثنا موسى بن مطير القرشي عن أبيه عن أبى هريرة أن أبا بكر قال لابنه: يا بنى إن حدث في الناس حدث فأت الغار الّذي رأيتني اختبأت فيه أنا ورسول الله ﷺ فكن فيه، فإنه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية.
ثم قال البزار: لا نعلم يرويه غير خلف بن تميم.
قلت: وموسى بن مطير هذا ضعيف متروك، وكذبه يحيى بن معين فلا يقبل حديثه. وقد ذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن الصديق قال في دخولهما الغار، وسيرهما بعد ذلك وما كان من قصة سراقة كما سيأتي شعرا. فمنه قوله:
قال النبي - ولم أجزع - يوقرنى … ونحن في سدف من ظلمة الغار
لا تخش شيئا فان الله ثالثنا … وقد توكل لي منه بإظهار
وقد روى أبو نعيم هذه القصيدة من طريق زياد عن محمد بن إسحاق فذكرها مطولة جدا، وذكر معها قصيدة أخرى والله أعلم وقد روى ابن لهيعة عن أبى الأسود عن عروة بن الزبير. قال فمكث رسول الله ﷺ بعد الحج - يعنى الّذي بايع فيه الأنصار - بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثم إن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله ﷺ، أو يحبسوه، أو يخرجوه فأطلعه الله على ذلك فأنزل عليه ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية. فأمر عليا فنام على فراشه، وذهب هو وأبو بكر، فلما أصبحوا ذهبوا في طلبهما في كل وجه يطلبونهما. وهكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه، وان خروجه هو وابو بكر الى الغار كان ليلا. وقد تقدم عن الحسن البصري فيما ذكره ابن هشام التصريح بذلك أيضا وقال البخاري حدثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل. قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله ﷺ طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلى المسلمون خرج ابو بكر مهاجرا نحو ارض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد (١) لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فذكرت ما كان من رده لأبى بكر إلى مكة وجواره له كما قدمناه عند هجرة الحبشة، إلى قوله فقال أبو بكر: فانى أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله. قالت والنبي ﷺ
(١) برك الغماد، بفتح الباء وكسرها وضم الغين وكسرها، موضع باليمن وقيل وراء مكة بخمس ليال.