فلما تقدم كعب بن سوار بالمصحف يدعو إليه استقبله مقدمة جيش الكوفيين، وكان عبد الله بن سبإ - وهو ابن السوداء - وأتباعه بين يدي الجيش، يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة، لا يتوقفون في أحد، فلما رأوا كعب بن سوار رافعا المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد فقتلوه، ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة ﵂، فجعلت تنادى: الله الله! يا بنى اذكروا يوم الحساب ورفعت يديها تدعو على أولئك النفر من قتلة عثمان،
فضج الناس معها بالدعاء حتى بلغت الضجة إلى على فقال: ما هذا؟ فقالوا: أم المؤمنين تدعو على قتله عثمان وأشياعهم. فقال: اللهمّ العن قتلة عثمان، وجعل أولئك النفر لا يقلعون عن رشق هودجها بالنبال حتى بقي مثل القنفذ، وجعلت تحرض الناس على منعهم وكفهم، فحملت معه الحفيظة فطردوهم حتى وصلت الحملة إلى الموضع الّذي فيه على بن أبى طالب، فقال لابنه محمد بن الحنفية: ويحك! تقدم بالراية، فلم يستطع، فأخذها على من يده فتقدم بها، وجعلت الحرب تأخذ وتعطى، فتارة لأهل البصرة، وتارة لأهل الكوفة، وقتل خلق كثير، وجم غفير، ولم تر وقعة أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة، وجعلت عائشة تحرض الناس على أولئك النفر من قتلة عثمان، ونظرت عن يمينها فقالت: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: نحن بكر بن وائل، فقالت: لكم يقول القائل:
وجاءوا إلينا بالحديد كأنهم … من الغرة القعساء بكر بن وائل
ثم لجأ إليها بنو ناجية ثم بنو ضبة فقتل عنده منهم خلق كثير، ويقال إنه قطعت يد سبعين رجلا وهي آخذة بخطام الجمل فلما اثخنوا تقدم بنو عدي بن عبد مناف فقاتلوا قتالا شديدا، ورفعوا رأس الجمل، وجعل أولئك يقصدون الجمل وقالوا: لا يزال الحرب قائما ما دام هذا الجمل واقفا، ورأس الجمل في يد عمرة بن يثربى، وقيل أخوه عمرو بن يثربى ثم صمد عليه علباء بن الهيثم وكان من الشجعان المذكورين، فتقدم إليه عمرو الجملي فقتله ابن يثربى وقتل زيد بن صوحان، وارتث صعصعة ابن صوحان فدعاه عمار إلى البراز فبرز له، فتجاولا بين الصفين - وعمار ابن تسعين سنة عليه فروة قد ربط وسطه بحبل ليف - فقال الناس: إنا لله وإنا إليه راجعون الآن يلحق عمارا بأصحابه، فضربه ابن يثربى بالسيف فاتقاه عمار بدرقته فغض فيها السيف ونشب، وضربه عمار فقطع رجليه وأخذ أسيرا الى بين يدي على فقال: استبقني يا أمير المؤمنين، فقال: أبعد ثلاثة تقتلهم؟ ثم أمر به فقتل واستمر زمام الجمل بعده بيد رجل كان قد استنابه فيه من بنى عدي فبرز إليه ربيعة العقيلي فتجاولا حتى قتل كل واحد صاحبه وأخذ الزمام الحارث الضبيّ فما رأى أشد منه وجعل يقول:
نحن بنو ضبة أصحاب الجمل … نبارز القرن إذا القرن نزل
ننعى ابن عفان بأطراف الأسل … الموت أحلى عندنا من العسل