والجهاد قائما على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها، فلما كان من أمره وأمر أمير المؤمنين على ما كان، لم يقع في تلك الأيام فتح بالكلية، لا على يديه ولا على يدي على، وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده ودحاهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب على تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمى عليك ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت. فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة.
ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسن بن على كما تقدم، فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين كما قدمنا، فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية. والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو.
وقد ثبت في صحيح مسلم من طريق عكرمة بن عمار عن أبى زميل سماك بن الوليد عن ابن عباس.
قال قال أبو سفيان: يا رسول الله ثلاثا أعطنيهن، قال: نعم، قال: تؤمرنى حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم! قال ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك، قال: نعم: وذكر الثالثة وهو أنه أراد أن يزوج رسول الله ﷺ بابنته الأخرى عزة بنت أبى سفيان، واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة، فقال:«إن ذلك لا يحل لي» وقد تكلمنا على ذلك في جزء مفرد، وذكرنا أقوال الائمة واعتذارهم عنه ولله الحمد. والمقصود منه أن معاوية كان من جملة الكتاب بين يدي رسول الله ﷺ الذين يكتبون الوحي.
وروى الامام أحمد ومسلم والحاكم في مستدركه من طريق أبى عوانة - الوضاح ابن عبد الله اليشكري - عن أبى حمزة عمران بن ابى عطاء عن ابن عباس. قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله ﷺ قد جاء فقلت: ما جاء إلا إلى، فاختبأت على باب فجاءني فخطانى خطاة أو خطاتين، ثم قال «اذهب فادع لي معاوية - وكان يكتب الوحي - قال: فذهبت فدعوته له فقيل:
إنه يأكل، فأتيت رسول الله ﷺ فقلت إنه يأكل، فقال: اذهب فادعه، فأتيته الثانية فقيل:
إنه يأكل فأخبرته، فقال في الثالثة: لا أشبع الله بطنه» قال: فما شبع بعدها، وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه، أما في دنياه فإنه لما صار إلى الشام أميرا، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا ويقول والله ما أشبع وإنما أعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك. وأما في الآخرة فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الّذي
رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة. أن رسول الله ﷺ قال: «اللهمّ إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته