للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لحبشه ثُمَّ عَلَى النَّوْبَةِ وَمَدِينَتِهَا الْعُظْمَى دُمْقُلَةَ [١] ثُمَّ عَلَى أُسْوَانَ ثُمَّ يَفِدُ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ. وَقَدْ تَحَمَّلَ إِلَيْهَا مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ زِيَادَاتِ أَمْطَارِهَا وَاجْتَرَفَ مِنْ تُرَابِهَا وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِمَا مَعًا لِأَنَّ مَطَرَهَا قَلِيلٌ لَا يَكْفِي زُرُوعَهَا وَأَشْجَارَهَا. وَتُرْبَتَهَا رِمَالٌ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا حَتَّى يَجِيءَ النِّيلُ بِزِيَادَتِهِ وَطِينِهِ فَيَنْبُتُ فِيهِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَهِيَ مِنْ أَحَقِّ الْأَرَاضِي بِدُخُولِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ ٣٢: ٢٧ ثم يجاوز النِّيلُ مِصْرَ قَلِيلًا فَيَفْتَرِقُ شَطْرَيْنِ عِنْدَ قَرْيَةٍ عَلَى شَاطِئِهِ يُقَالُ لَهَا شَطَنُوفُ فَيَمُرُّ الْغَرْبِيُّ عَلَى رَشِيدٍ وَيَصُبُّ فِي الْبَحْرِ الْمَالِحِ وَأَمَّا الشَّرْقِيُّ فَتَفْتَرِقُ أَيْضًا عِنْدَ جَوْجَرَ فِرْقَتَيْنِ تَمُرُّ الْغَرْبِيَّةُ مِنْهُمَا عَلَى دِمْيَاطَ مِنْ غَرْبِيِّهَا وَيَصُبُّ فِي الْبَحْرِ وَالشَّرْقِيَّةُ مِنْهُمَا تَمُرُّ عَلَى أَشْمُونِ [٢] طَنَّاحٍ فَيَصُبُّ هُنَاكَ فِي بُحَيْرَةٍ شَرْقِيِّ دِمْيَاطَ. يُقَالُ لَهَا بُحَيْرَةُ تَنِّيسَ وَبُحَيْرَةُ دِمْيَاطَ.

وَهَذَا بعد عظيم فيما بين مبتدئه إِلَى مُنْتَهَاهُ. وَلِهَذَا كَانَ أَلْطَفَ الْمِيَاهِ قَالَ ابْنُ سِينَا لَهُ خُصُوصِيَّاتٌ دُونَ مِيَاهِ سَائِرِ الْأَرْضِ فَمِنْهَا أَنَّهُ أَبْعَدُهَا مَسَافَةً مِنْ مَجْرَاهُ إِلَى أَقْصَاهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى صُخُورٍ وَرِمَالٍ لَيْسَ فِيهِ خَزٌّ وَلَا طُحْلُبٌ وَلَا أَوْحَالٌ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَخْضَرُّ فِيهِ حَجَرٌ وَلَا حَصَاةٌ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِصِحَّةِ مِزَاجِهِ وَحَلَاوَتِهِ وَلَطَافَتِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ زِيَادَتَهُ فِي أَيَّامِ نُقْصَانِ سَائِرِ الْأَنْهَارِ. وَنُقْصَانَهُ فِي أَيَّامِ زِيَادَتِهَا وَكَثْرَتِهَا وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ أَصْلَ مَنْبَعِ النِّيلِ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ فَرَأَى هُنَاكَ هَوْلًا عَظِيمًا وَجَوَارِيَ حِسَانًا وَأَشْيَاءَ غَرِيبَةً وَأَنَّ الَّذِي اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ بَعْدَ هَذَا فَهُوَ مِنْ خُرَافَاتِ الْمُؤَرِّخِينَ وَهَذَيَانَاتِ الْأَفَّاكِينَ وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ قال «لما فتح عمرو بن عاص مصر أتى أهلها اليه حين دخل شهر بؤنة من أشهر العجم (القبطية) فقالوا (أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّ لِنِيلِنَا هَذَا سُنَّةً لَا يَجْرِي إِلَّا بِهَا فَقَالَ لَهُمْ وَمَا ذَاكَ قَالُوا إِذَا كَانَ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ بَيْنَ أَبَوَيْهَا فَأَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا وَجَعَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحَلْيِ وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيلِ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو إِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ وَإِنَّ الْإِسْلَامَ يهدم ما قبله فأقاموا بؤنة وَالنِّيلُ لَا يَجْرِي لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وفي رواية فأقاموا بؤنة وَأَبِيبَ وَمِسْرَى وَهُوَ لَا يَجْرِي حَتَّى هَمُّوا بِالْجَلَاءِ. فَكَتَبَ عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ إِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ بِالَّذِي فَعَلْتَ وَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِطَاقَةً دَاخِلَ كِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهَا فِي النِّيلِ فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُهُ أَخَذَ عَمْرٌو الْبِطَاقَةَ فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا «مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نِيلِ مِصْرَ (أَمَّا بَعْدُ) فَإِنْ كُنْتَ تَجْرِي مِنْ قِبَلِكَ فَلَا تَجْرِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَكَ [٣] فَأَلْقَى عَمْرٌو الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ فَأَصْبَحَ يَوْمُ السَّبْتِ وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ النِّيلَ سِتَّةَ عَشَرَ ذراعا


[١] المعروفة الآن باسم دنقلة بطريق التحريف
[٢] كذا بالأصول وفي معجم البلدان (اشموم طناح) .
[٣] قوله فالقى عمرو البطاقة في النيل إلخ الّذي في حسن المحاضرة للسيوطي فالقى عمر البطاقة في

<<  <  ج: ص:  >  >>