يا نفس حتام إلى الدنيا سكونك، وإلى عمارتها ركونك، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك ومن وارته الأرض من ألاّفك؟ ومن فجعت به من إخوانك، ونقل إلى الثرى من أقرانك؟ فهم في بطون الأرض بعد ظهورها، محاسنهم فيها بوال دواثر.
خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم … وساقتهم نحو المنايا المقادر
وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها … وضمهم تحت التراب الحفائر
كم خرمت أيدي المنون من قرون بعد قرون، وكم غيرت الأرض ببلائها، وغيبت في ترابها، ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى الأمارس، ثم رجعت [عنهم إلى عمل أهل الإفلاس: -
وأنت على الدنيا مكب منافس … لخطابها فيها حريص مكاثر
على خطر تمشى وتصبح لاهيا … أتدري بماذا لو عقلت تخاطر
وإن امرأ يسعى لدنياه دائبا … ويذهل عن أخراه لا شك خاسر
فحتام على الدنيا إقبالك؟ وبشهواتها اشتغالك؟ وقد وخطك القتير، وأتاك النذير، وأنت عما يراد بك ساه وبلذة يومك وغدك لاه، وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات، وعاينت ما حل بهم من المصيبات،
وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى … عن اللهو واللذات للمرء زاجر
أبعد اقتراب الأربعين تربص … وشيب قذال منذر للكابر
كأنك معنى بما هو ضائر … لنفسك عمدا وعن الرشد حائر
انظر إلى الأمم الماضية والملوك الفانية كيف اختطفتهم عقبان الأيام، ووافاهم الحمام، فانمحت من الدنيا آثارهم، وبقيت فيها أخبارهم، وأضحوا رمما في التراب، إلى يوم الحشر والمآب،
أمسحوا رميما في التراب وعطلت … مجالسهم منهم وأخلى مقاصر
وحلوا بدار لا تزاور بينهم … وأنى لسكان القبور التزاور
فما أن ترى الا قبورا قد ثووا بها … مسطحة تسفى عليها الأعاصر
كم من ذي منعة وسلطان وجنود وأعوان، تمكن من دنياه، ونال فيها ما تمناه، وبنى فيها القصور والدساكر، وجمع فيها الأموال والذخائر، وملح السراري والحرائر.
فما صرفت كف المنية إذ أتت … مبادرة تهوى إليه الذخائر
ولا دفعت عنه الحصون التي بنى … وحف بها أنهاره والدساكر
ولا قارعت عنه المنية حيلة … ولا طمعت في الذب عنه العساكر
أتاه من الله ما لا يرد، ونزل به من قضائه ما لا يصد، فتعالى الله الملك الجبار، المتكبر العزيز القهار، قاصم الجبارين، ومبيد المتكبرين، الّذي ذل لعزه كل سلطان، وأباد بقوته كل ديان.