للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الى القول الأول، قال الجريريّ: وإلى القول الأول نذهب. وتقدم أن عمر بن عبد العزيز لما رجع من جنازة سليمان أتى بمراكب الخلافة ليركبها فامتنع من ذلك وأنشأ يقول: -

فلولا التقى ثم النهى خشية الردى … لعاصيت في حب الصبا كل زاجر

قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى … له صبوة أخرى الليالي الغوابر

ثم قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، قدموا إلى بغلتي، ثم أمر ببيع تلك المراكب الخليفية فيمن يزيد، وكانت من الخيول الجياد المثمنة، فباعها وجعل أثمانها في بيت المال. قالوا: ولما رجع من الجنازة وقد بايعه الناس واستقرت الخلافة باسمه، انقلب وهو مغتم مهموم، فقال له مولاه: مالك هكذا مغتما مهموما وليس هذا بوقت هذا؟ فقال: ويحك وما لي لا أغتم وليس أحد من أهل المشارق والمغارب من هذه الأمة إلا وهو يطالبني بحقه أن أؤديه إليه، كتب إلى في ذلك أو لم يكتب، طلبه منى أو لم يطلب. قالوا: ثم إنه خير امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت وبكى جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله. وقال له رجل: تفرغ لنا يا أمير المؤمنين، فأنشأ يقول:

قد جاء شغل شاغل … وعدلت عن طرق السلامة

ذهب الفراغ فلا فراغ … لنا إلى يوم القيامة

وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن سلام عن سلام بن سليم قال: لما ولى عمر بن عبد العزيز صعد المنبر وكان أول خطبة خطبها حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فليفارقنا، يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا أحدا، ولا يعرضن فيما لا يعنيه. فانقشع عنه الشعراء والخطباء وثبت معه الفقهاء والزهاد، وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله. وقال سفيان ابن عيينة: لما ولى عمر بن عبد العزيز بعث إلى محمد بن كعب ورجاء بن حيوة وسالم بن عبد الله فقال لهم: قد ترون ما ابتليت به وما قد نزل بى، فما عندكم؟ فقال محمد بن كعب: اجعل الشيخ أبا، والشاب أخا، والصغير ولدا، وبر أباك وصل أخاك، وتعطف على ولدك. وقال رجاء: ارض للناس ما ترضى لنفسك، وما كرهت أن يؤتى إليك فلا تأته إليهم، واعلم أنك أول خليفة تموت.

وقال سالم: اجعل الأمر واحدا وصم فيه عن شهوات الدنيا، واجعل آخر فطرك فيه الموت. فكأن قد. فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال غيره: خطب عمر بن عبد العزيز يوما الناس فقال - وقد خنقته العبرة - أيها الناس! أصلحوا آخرتكم يصلح الله دنياكم، وأصلحوا أسراركم يصلح لكم علانيتكم، والله إن عبدا ليس

<<  <  ج: ص:  >  >>