الأمراء في نقل القصر الأبيض من المدائن إلى بغداد لأجل قصر الامارة بها، فقالوا: لا تفعل فإنه آية في العالم، وفيه مصلى أمير المؤمنين على بن أبى طالب. فخالفهم ونقل منه شيئا كثيرا فلم يف ما تحصل منه بأجرة ما يصرف في حمله فتركه، ونقل أبواب قصر واسط إلى أبواب قصر الامارة ببغداد. وقد كان الحجاج نقل حجارته من مدينة هناك كانت من بناء سليمان بن داود، وكانت الجن قد عملت تلك الأبواب، وهي حجارة هائلة. وقد كانت الأسواق وضجيجها تسمع من قصر الامارة، فكانت أصوات الباعة وهوسات الأسواق تسمع منه، فعاب ذلك بعض بطارقة النصارى ممن قدم في بعض الرسائل من الروم، فأمر المنصور بنقل الأسواق من هناك إلى موضع آخر، وأمر بتوسعة الطرقات أربعين ذراعا في أربعين ذراعا، ومن بنى في شيء من ذلك هدم.
قال ابن جرير: وذكر عن عيسى بن المنصور أنه قال: وجدت في خزائن المنصور في الكتب أنه أنفق على بناء مدينة السلام ومسجدها الجامع وقصر الذهب بها والأسواق وغير ذلك، أربعة آلاف ألف وثمانمائة ألف وثلاثة وثمانين ألف درهم، وكان أجرة الأستاذ من البناءين كل يوم قيراط فضة، وأجرة الصانع من الحبتين إلى الثلاثة. قال الخطيب البغدادي: وقد رأيت ذلك في بعض الكتب، وحكى عن بعضهم أنه قال: أنفق عليه ثمانية عشر ألف ألف فالله أعلم.
وذكر ابن جرير أن المنصور ناقص أحد المهندسين الّذي بنى له بيتا حسنا في قصر الامارة فنقصه درهما عما ساومه، وأنه حاسب بعض المستحثين على الّذي كان عنده ففضل عنده خمسة عشر درهما فحبسه حتى جاء بها وأحضرها وكان شحيحا. قال الخطيب: وبناها مدورة، ولا يعرف في أقطار الأرض مدينة مدورة سواها، ووضع أساسها في وقت اختاره له نوبخت المنجم. ثم ذكر عن بعض المنجمين قال قال لي المنصور لما فرغ من بناء بغداد: خذ الطالع لها، فنظرت في طالعها - وكان المشترى في القوس - فأخبرته بما تدل عليه النجوم، من طول زمانها، وكثرة عمارتها، وانصباب الدنيا إليها وفقر الناس إلى ما فيها. قال: ثم قلت له: وأبشرك يا أمير المؤمنين أنه لا يموت فيها أحد من الخلفاء أبدا. قال: فرأيته يبتسم ثم قال: الحمد لله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وذكر عن بعض الشعراء أنه قال في ذلك شعرا منه:
قضى ربها أن لا يموت خليفة … بها إنه ما شاء في خلقه يقضى
وقد قرره على هذا الخطأ الخطيب وسلم ذلك ولم ينقضه بشيء بل قرره مع اطلاعه ومعرفته.
قال: وزعم بعض الناس أن الأمين قتل بدرب الأنبار منها فذكرت ذلك للقاضي أبى القاسم على بن حسن التنوخي فقال: محمد الأمين لم يقتل بالمدينة، وإنما كان قد نزل في سفينة إلى دجلة ليتنزه فقبض عليه في وسط دجلة وقتل هناك. ذكر ذلك الصولي وغيره.