للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الخلافة في سنة سبعين كان من أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزوا وحجا، ولهذا قال فيه أبو السعلي (١):

فمن يطلب لقاءك أو يرده … فبالحرمين أو أقصى الثغور

ففي أرض العدو على طمر … وفي أرض الترفه (٢) فوق كور

وما حاز الثغور سواك خلق … من المتخلفين على الأمور

وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم، وإذا حج أحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة السابغة والكسوة التامة، وكان يحب التشبه بجده أبي جعفر المنصور إلا في العطاء، فإنه كان سريع العطاء جزيله، وكان يحب الفقهاء والشعراء ويعطيهم، ولا يضيع لديه بر ومعروف، وكان نقش خاتمه لا إله إلا الله. وكان يصلي في كل يوم مائة ركعة تطوعا، إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان ابن أبي مريم هو الّذي يضحكه، وكان عنده فضيلة بأخبار الحجاز وغيرها، وكان الرشيد قد أنزله في قصره وخلطه بأهله. نبهه الرشيد يوما إلى صلاة الصبح فقام فتوضأ ثم أدرك الرشيد وهو يقرأ ﴿وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [يس: ٢٢] فقال ابن أبي مريم:

لا أدري والله. فضحك الرشيد وقطع الصلاة، ثم أقبل عليه وقال: ويحك اجتنب الصلاة والقرآن وقل فيما عدا ذلك. ودخل يوما العباس بن محمد على الرشيد ومعه برنية من فضة فيها غالية من أحسن الطيب، فجعل يمدحها ويزيد في شكرها، وسأل من الرشيد أن يقبلها منه فقبلها فاستوهبها منه ابن أبي مريم فوهبها له، فقال له العباس: ويحك! جئت بشيء منعته نفسي وأهلي وآثرت به أمير المؤمنين سيدي فأخذته. فحلف ابن أبي مريم ليطيبن به استه، ثم أخذ منها شيئا فطلى به استه ودهن جوارحه كلها منها، والرشيد لا يتمالك نفسه من الضحك. ثم قال لخادم قائم عندهم يقال له خاقان: اطلب لي غلامي. فقال الرشيد: ادع له غلامه. فقال له: خذ هذه الغالية واذهب بها إلى ستك فمرها فلتطيب منها استها حتى أرجع إليها فأنيكها. فذهب الضحك بالرشيد كل مذهب، ثم أقبل ابن أبي مريم على العباس بن محمد فقال له: جئت بهذه الغالية تمدحها عند أمير المؤمنين الّذي ما تمطر السماء شيئا ولا تنبت الأرض شيئا إلا وهو تحت تصرفه وفي يده؟ وأعجب من هذا أن قيل لملك الموت: ما أمرك به هذا فأنفذه. وأنت تمدح هذه الغالية عنده كأنه بقال أو خباز أو طباخ أو تمار، فكاد الرشيد يهلك من شدة الضحك. ثم أمر لابن أبي مريم بمائة ألف درهم.


(١) في الطبري ١٠/ ٩٩: أبو المعالي الكلابي.
(٢) في فوات الوفيات ٤/ ٢٢٥: الثنية.

<<  <  ج: ص:  >  >>