للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد شرب الرشيد يوما دواء فسأله ابن أبي مريم أن يلي الحجابة في هذا اليوم، ومهما حصل له كان بينه وبين أمير المؤمنين، فولاه الحجابة، فجاءت الرسل بالهدايا من كل جانب، من عند زبيدة والبرامكة وكبار الأمراء، وكان حاصله في هذا اليوم ستين ألف دينار، فسأله الرشيد في اليوم الثاني عما تحصل فأخبره بذلك، فقال له: فأين نصيبي؟ فقال ابن أبي مريم: قد صالحتك عليه بعشرة آلاف تفاحة.

وقد استدعى إليه أبا معاوية الضرير محمد بن حازم ليسمع منه الحديث قال أبو معاوية: ما ذكرت عنده حديثا إلا قال صلى الله وسلم على سيدي، وإذا سمع فيه موعظة بكى حتى يبل الثرى، وأكلت عنده يوما ثم قمت لأغسل يدي فصب الماء عليّ وأنا لا أراه، ثم قال: يا أبا معاوية أتدري من يصب عليك الماء؟ قلت: لا. قال: يصب عليك أمير المؤمنين. قال أبو معاوية: فدعوت له، فقال:

إنما أردت تعظيم العلم. وحدثه أبو معاوية يوما عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة بحديث احتجاج آدم وموسى، فقال عم الرشيد: أين التقيا يا أبا معاوية؟ فغضب الرشيد من ذلك غضبا شديدا، وقال: أتعترض على الحديث؟ عليّ بالنطع والسيف، فأحضر ذلك فقام الناس إليه يشفعون فيه فقال الرشيد: هذه زندقة. ثم أمر بسجنه وأقسم أن لا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا، فأقسم عمه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة مني وأنا أستغفر الله وأتوب إليه منها. فأطلقه.

وقال بعضهم: دخلت على الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق والسياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول، فقال الرشيد: قتلته لأنه قال القرآن مخلوق، فقتله على ذلك قربة إلى الله ﷿.

وقال بعض أهل العلم: يا أمير المؤمنين انظر هؤلاء الذين يحبون أبا بكر وعمر ويقدمونهما فأكرمهم بعز سلطانك، فقال الرشيد: أولست كذلك؟ أنا والله كذلك أحبهما وأحب من يحبهما وأعاقب من يبغضهما. وقال له ابن السماك: إن الله لم يجعل أحدا فوقك فاجتهد أن لا يكون فيهم أحد أطوع إلى الله منك. فقال: لئن كنت أقصرت في الكلام لقد أبلغت في الموعظة.

وقال له الفضيل بن عياض - أو غيره - إن الله لم يجعل أحدا من هؤلاء فوقك في الدنيا، فاجهد نفسك أن لا يكون أحد منهم فوقك في الآخرة، فاكدح لنفسك وأعملها في طاعة ربك. ودخل عليه ابن السماك يوما فاستسقى الرشيد فأتي بقلة فيها ماء مبرد فقال لابن السماك: عظني. فقال: يا أمير المؤمنين! بكم كنت مشتريا هذه الشربة لو منعتها؟ فقال: بنصف ملكي. فقال: اشرب هنيئا، فلما شرب قال: أرأيت لو منعت خروجها من بدنك بكم كنت تشتري ذلك؟ قال بنصف ملكي الآخر.

فقال: إن ملكا قيمة نصفه شربة ماء، وقيمة نصفه الآخر بولة، لخليق أن لا يتنافس فيه. فبكى هارون.

<<  <  ج: ص:  >  >>