للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ: اجْتَمَعَ لِلرَّشِيدِ مِنَ الْجِدِّ وَالْهَزْلِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ من بعده، كَانَ أَبُو يُوسُفَ قَاضِيَهُ، وَالْبَرَامِكَةُ وُزَرَاءَهُ، وَحَاجِبُهُ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ أَنْبَهُ النَّاسِ وَأَشَدُّهُمْ تَعَاظُمًا، ونديمه عمر بن الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ صَاحِبُ الْعَبَّاسِيَّةِ. وَشَاعِرُهُ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَمُغَنِّيهِ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ وَاحِدُ عصره في صناعته، ومضحكه ابن أبى مريم، وَزَامِرُهُ بَرْصُومَا. وَزَوْجَتُهُ أُمُّ جَعْفَرٍ- يَعْنِي زُبَيْدَةَ- وَكَانَتْ أَرْغَبَ النَّاسِ فِي كُلِّ خَيْرٍ وَأَسْرَعَهُمْ إِلَى كُلِّ بِرٍّ وَمَعْرُوفٍ، أَدْخَلَتِ الْمَاءَ الْحَرَمَ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ، إِلَى أَشْيَاءَ مِنَ المعروف أجراها الله على يدها.

وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ يَقُولُ: إنا من قوم عظمت رزيتهم، وحسنت بعثتهم، وَرِثْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبقيت فينا خلافة الله. وَبَيْنَمَا الرَّشِيدُ يَطُوفُ يَوْمًا بِالْبَيْتِ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَكَ بِكَلَامٍ فِيهِ غِلْظَةٌ، فَقَالَ لَا وَلَا نِعْمَتْ عَيْنٌ قَدْ بَعَثَ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ إِلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا. وَعَنْ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: رَأَيْتُ الرَّشِيدَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المنكر، فخوفتنى فقالت: إِنَّهُ الْآنَ يَضْرِبُ عُنُقَكَ. فَقُلْتُ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، فَنَادَيْتُهُ فَقُلْتُ:

يَا هَارُونُ! قَدْ أَتْعَبْتَ الْأُمَّةَ وَالْبَهَائِمَ. فَقَالَ: خُذُوهُ. فَأُدْخِلْتُ عَلَيْهِ وَفِي يَدِهِ لَتٌّ مِنْ حَدِيدٍ يَلْعَبُ بِهِ وهو جالس على كرسي، فقال: من الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أمك ممن أنت؟ فقلت: من الأنبار. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ دَعَوْتَنِي بِاسْمِي؟ قال: فخطر ببالي شيء لم يخطر قَبْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَنَا أَدْعُو اللَّهَ بِاسْمِهِ يا الله، أَفَلَا أَدْعُوكَ بِاسْمِكَ؟ وَهَذَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ دعا أحب خلقه إليه بأسمائهم: يا آدم، يا نوح، يا هود، يا صالح، يا إبراهيم، يا موسى يا عيسى، يا محمد، وكنى أبغض خلقه إليه فقال: تبت يدا أبى لهب. فَقَالَ الرَّشِيدُ: أَخْرِجُوهُ أَخْرِجُوهُ.

وَقَالَ لَهُ ابْنُ السماك يوما: إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث منه وحدك، فاحذر المقام بين يدي الله عز وجل، وَالْوُقُوفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حِينَ يُؤْخَذُ بِالْكَظَمِ وتزل المقدم، ويقع الندم، فلا توبة تقبل، وَلَا عَثْرَةَ تُقَالُ، وَلَا يُقْبَلُ فِدَاءٌ بِمَالٍ. فَجَعَلَ الرَّشِيدُ يَبْكِي حَتَّى عَلَا صَوْتُهُ فَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لَهُ: يَا ابْنَ السِّمَاكِ! لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّيْلَةَ. فَقَامَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَبْكِي. وَقَالَ لَهُ الفضيل بن عياض- في كلام كثير ليلة وعظه بِمَكَّةَ-: يَا صَبِيحَ الْوَجْهِ إِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ هؤلاء كلهم، وقد قال تعالى وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ٢: ١٦٦ قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ:

الْوُصَلَاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا. فَبَكَى حَتَّى جَعَلَ يشهق. وقال الفضيل: اسْتَدْعَانِي الرَّشِيدُ يَوْمًا وَقَدْ زَخْرَفَ مَنَازِلَهُ وَأَكْثَرَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَاللَّذَّاتِ فِيهَا، ثُمَّ اسْتَدْعَى أَبَا الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ لَهُ: صِفْ لَنَا مَا نَحْنُ فيه من العيش والنعيم فقال: -

<<  <  ج: ص:  >  >>