للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَيَأْنَسُ بِالْهَوَامِّ، وَيَسْتَمْتِعُ بِالظَّلَامِ، يُبْصِرُ فَيَعْتَبِرُ، وَيُفَكِّرُ فيختبر، فَصَارَ لِذَلِكَ وَاحِدًا تُضْرَبُ بِحِكْمَتِهِ الْأَمْثَالُ، وَتُكْشَفُ بِهِ الْأَهْوَالُ. أَدْرَكَ رَأْسَ الْحَوَارِيِّينَ سَمْعَانَ، وَهُوَ أَوَّلُ رَجُلٍ تَأَلَّهَ مِنَ الَعَرَبِ وَوَحَّدَ، وَأَقَرَّ وَتَعَبَّدَ، وَأَيْقَنَ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، وَحَذِرَ سُوءَ الْمَآبِ، وَأَمَرَ بِالْعَمَلِ قَبْلَ الْفَوْتِ، وَوَعَظَ بِالْمَوْتِ وَسَلَّمَ بالْقَضَا، عَلَى السُّخْطِ وَالرِّضَا، وَزَارَ الْقُبُورَ، وَذَكَرَ النُّشُورَ، وَنَدَبَ بِالْأَشْعَارِ، وَفَكَّرَ فِي الْأَقْدَارِ، وَأَنْبَأَ عَنِ السَّمَاءِ وَالنَّمَاءِ، وَذَكَرَ النُّجُومَ وَكَشَفَ الْمَاءَ، وَوَصَفَ الْبِحَارَ، وَعَرَفَ الْآثَارَ، وَخَطَبَ رَاكِبًا، وَوَعَظَ دَائِبًا، وَحَذَّرَ مِنَ الَكَرْبِ، وَمِنْ شَدَّةِ الْغَضَبِ، وَرَسَّلَ الرَّسَائِلَ، وَذَكَرَ كُلَّ هَائِلٍ، وَأَرْغَمَ فِي خُطَبِهِ، وَبَيَّنَ فِي كُتُبِهِ، وَخَوَّفَ الدَّهْرَ، وَحَذَّرَ الْأَزْرَ، وَعَظَّمَ الْأَمْرَ، وَجَنَّبَ الْكُفْرَ، وَشَوَّقَ إِلَى الْحَنِيفِيَّةِ، وَدَعَا إِلَى اللَّاهُوتِيَّةِ. وَهُوَ الْقَائِلُ فِي يَوْمِ عُكَاظٍ: شَرْقٌ وَغَرْبٌ، وَيُتْمٌ وَحِزْبٌ، وَسِلْمٌ وَحَرْبٌ، وَيَابِسٌ وَرَطْبٌ، وَأُجَاجٌ وَعَذْبٌ، وَشُمُوسٌ وَأَقْمَارٌ، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وأناث وذكور، وبرار وبحور، وَحَبٌّ وَنَبَاتٌ، وَآبَاءٌ وَأُمَّهَاتٌ، وَجَمْعٌ وَأَشْتَاتٌ، وَآيَاتٌ فِي إِثْرِهَا آيَاتٌ، وَنُورٌ وَظَلَامٌ، وَيُسْرٌ وَإِعْدَامٌ، ورب وأصنام، لقد ضل الأنام، نشوّ مَوْلُودٍ، وَوَأْدُ مَفْقُودٍ، وَتَرْبِيَةُ مَحْصُودٍ، وَفَقِيرٌ وَغَنِيٌّ، وَمُحْسِنٌ وَمُسِيءٌ، تَبًّا لِأَرْبَابِ الْغَفْلَةِ، لَيُصْلِحَنَّ الْعَامِلُ عَمَلَهُ، وَلَيَفْقِدَنَّ الْآمِلُ أَمَلَهُ، كَلَّا بَلْ هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ، لَيْسَ بِمَوْلُودٍ وَلَا وَالِدٍ، أَعَادَ وَأَبْدَى، وَأَمَاتَ وَأَحْيَا، وَخَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، رَبُّ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا مَعْشَرَ إِيَادٍ، أَيْنَ ثَمُودُ وَعَادٌ؟ وَأَيْنَ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ؟ وَأَيْنَ الْعَلِيلُ وَالْعُوَّادُ؟ كُلٌّ لَهُ مُعَادٌ يُقْسِمُ قُسٌّ بِرَبِّ الْعِبَادِ، وَسَاطِحِ الْمِهَادِ، لَتُحْشَرُنَّ عَلَى الِانْفِرَادِ، فِي يَوْمِ التَّنَادِ، إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ، وَنُقِرَ فِي النَّاقُورِ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ، وَوَعَظَ الْوَاعِظُ، فَانْتَبَذَ الْقَانِطُ وَأَبْصَرَ اللَّاحِظُ، فَوَيْلٌ لِمَنْ صَدَفَ عَنِ الْحَقِّ الْأَشْهَرِ، وَالنُّورِ الْأَزْهَرِ، وَالْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، فِي يَوْمِ الْفَصْلِ، وَمِيزَانِ الْعَدْلِ، إِذَا حَكَمَ الْقَدِيرُ، وَشَهِدَ النَّذِيرُ، وَبَعُدَ النَّصِيرُ، وَظَهَرَ التَّقْصِيرُ، فَفَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَهُوَ الْقَائِلُ:

ذَكَّرَ الْقَلْبَ مِنْ جَوَاهُ ادِّكَارُ ... وَلَيَالٍ خلالهنّ نَهَارُ

وَسِجَالٌ هَوَاطِلٌ مِنْ غَمَامٍ ... ثُرْنَ مَاءً وفي جواهنّ نار

ضوءها يطمس العيون وأرعاد ... شِدَادٌ فِي الْخَافِقَيْنَ تَطَارُ

وَقُصُورٌ مُشَيَّدَةٌ حَوَتِ الخير ... وَأُخْرَى خَلَتْ بِهِنَّ قِفَارُ

وَجِبَالٌ شَوَامِخُ رَاسِيَاتٌ ... وَبِحَارٌ مِيَاهُهُنَّ غِزِارُ

وَنُجُومٌ تُلُوحُ فِي ظُلَمِ الليل ... نَرَاهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ تُدَارُ

ثُمَّ شَمْسٌ يحثها قمر الليل ... وَكُلٌّ مُتَابِعٌ مَوَّارُ

وَصَغِيرٌ وَأَشْمَطٌ وَكَبِيرٌ ... كُلُّهُمْ في الصعيد يوما مزار

وكبير مِمَّا يُقَصِّرُ عَنْهُ ... حَدْسُهُ الْخَاطِرُ الَّذِي لَا يحار

<<  <  ج: ص:  >  >>