للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَصُعُودِهِ فِي الْمِعْرَاجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ فقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ ١٧: ١ وَالتَّسْبِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الْخَارِقَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَالْعَبْدُ عِبَارَةٌ عَنْهُمَا وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمَا بَادَرَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ إِلَى التَّكْذِيبِ بِهِ وَالِاسْتِبْعَادِ لَهُ إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ أَمْرٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ: ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا فِي الْحِجْرِ مَعْدُودٌ فِي غَلَطَاتِ شَرِيكٍ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ يُسَمَّى يَقَظَةً كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّائِفِ فَكَذَّبُوهُ، قَالَ فَرَجَعْتُ مَهْمُومًا فَلَمِ اسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ حِينَ جَاءَ بِابْنِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُحَنِّكَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَغَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَدِيثِ مَعَ النَّاسِ فَرَفَعَ أَبُو أُسَيْدٍ ابْنَهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَجِدِ الصَّبِيَّ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا رُفِعَ فَسَمَّاهُ الْمُنْذِرَ. وَهَذَا الْحَمْلُ أَحْسَنُ مِنَ التَّغْلِيطِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ فَقَالَ حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: مَا فُقِدَ جَسَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الله أسرى بروجه. قَالَ وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَتْ رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ صَادِقَةً.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا لِقَوْلِ الْحَسَنِ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً للناس) وَكَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ٣٧: ١٠٢ وَفِي الْحَدِيثِ: «تَنَامُ عَيْنِي وَقَلْبِي يَقْظَانُ» .

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فاللَّه أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. قَدْ جَاءَهُ وَعَايَنَ فِيهِ مَا عَايَنَ مِنْ أمر الله تعالى على أي حاله كان نائما أو يقظانا كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ وَصِدْقٌ.

قُلْتُ: وَقَدْ تَوَقَّفَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ وَجَوَّزَ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّ الَّذِي لَا يشك فيه ولا يتمارى أنه كان يقظانا لَا مَحَالَةَ لِمَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَ مُقْتَضَى كَلَامِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ جَسَدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فُقِدَ وَإِنَّمَا كَانَ الاسراء بروحه أن يكون مَنَامًا كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ وَقَعَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ يَقْظَانُ لَا نَائِمٌ وَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَجَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وصعد السموات وَعَايَنَ مَا عَايَنَ حَقِيقَةً وَيَقَظَةً لَا مَنَامًا. لَعَلَّ هَذَا مُرَادُ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَمُرَادُ مَنْ تَابَعَهَا عَلَى ذَلِكَ. لَا مَا فَهِمَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ الْمَنَامَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

تَنْبِيهٌ: وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ وُقُوعَ مَنَامٍ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ طِبْقَ مَا وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ أَنَّهُ رَأَى مِثْلَ مَا وَقَعَ لَهُ يَقَظَةً مَنَامًا قَبْلَهُ ليكون ذلك من باب الإرهاص والتوطئة والتثبت وَالْإِينَاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>