ثم قد اختلف العلماء في أن الاسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة أو كل في ليلة على حدة؟ فمنهم من يزعم أن الاسراء في اليقظة، والمعراج في المنام. وقد حكى المهلب بن أبى صفرة في شرحه البخاري عن طائفة أنهم ذهبوا إلى أن الاسراء مرتين، مرة بروحه مناما، ومرة ببدنه وروحه يقظة وقد حكاه الحافظ أبو القاسم السهيليّ عن شيخه أبى بكر بن العربيّ الفقيه. قال السهيليّ: وهذا القول يجمع الأحاديث فان في حديث شريك عن أنس وذلك فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه، وقال في آخره: ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر وهذا منام. ودل غيره على اليقظة، ومنهم عن يدعى تعدد الاسراء في اليقظة أيضا حتى قال بعضهم: إنها أربع اسراءات، وزعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة وقد حاول الشيخ شهاب الدين أبو شامة ﵀ أن يوفق بين اختلاف ما وقع في روايات حديث الاسراء بالجمع المتعدد فجعل ثلاث اسراءات، مرة من مكة إلى البيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة الى السماء على البراق أيضا لحديث حذيفة، ومرة من مكة الى بيت المقدس ثم الى السموات.
فنقول: ان كان انما حمله على القول بهذه الثلاث اختلاف الروايات فقد اختلف لفظ الحديث في ذلك على أكثر من هذه الثلاث صفات ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر فيما جمعناه مستقصيا في كتابنا التفسير عند قوله تعالى ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾ وان كان انما حمله أن التقسيم انحصر في ثلاث صفات بالنسبة الى بيت المقدس والى السموات فلا يلزم من الحصر العقلي والوقوع كذلك في الخارج الا بدليل والله أعلم. والعجب أن الامام أبا عبد الله البخاري ﵀ ذكر الاسراء بعد ذكره موت أبى طالب فوافق ابن إسحاق في ذكره المعراج في أواخر الأمر، وخالفه في ذكره بعد موت أبى طالب، وابن إسحاق أخر ذكر موت أبى طالب على الاسراء، فالله أعلم أي ذلك كان. والمقصود أن البخاري فرق بين الاسراء وبين المعراج فبوب لكل واحد منهما بابا على حدة فقال: باب حديث الاسراء وقول الله ﷾ ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾
حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال سمعت جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله ﷺ يقول:«لما كذبتني قريش كنت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أحدثهم عن آياته وأنا انظر اليه». وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث الزهري عن أبى سلمة عن جابر به. ورواه مسلم والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن الفضل عن أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبي ﷺ بنحوه. ثم
قال البخاري باب حديث المعراج:
حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن النبي ﷺ حدثهم عن ليلة أسرى به. قال: «بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضجعا