للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذكروا أن المهدي كان قد أهدر دم رجل من أهل الكوفة وجعل لمن جاء به مائة ألف، فدخل الرجل بغداد متنكرا فلقيه رجل فأخذ بمجامع ثوبه ونادى: هذا طلبة أمير المؤمنين. وجعل الرجل يريد أن ينفلت منه فلا يقدر، فبينا هما، يتجاذبان وقد اجتمع الناس عليهما، إذ مر أمير في موكبه - وهو معن بن زائدة - فقال الرجل! يا أبا الوليد خائف مستجير. فقال معن: ويلك مالك وله؟ فقال هذا طلبة أمير المؤمنين، جعل لمن جاء به مائة ألف. قال معن: أما علمت أنى قد أجرته؟ أرسله من يدك. ثم أمر بعض غلمانه فترجل وأركبه وذهب به إلى منزله، وانطلق ذلك الرجل إلى باب الخليفة وأنهى إليهم الخبر، فبلغ المهدي فأرسل إلى معن فدخل عليه فسلم فلم يرد عليه السلام وقال:

يا معن أبلغ من أمرك أن تجير على؟ قال: نعم قال: ونعم أيضا قال: نعم! قد قتلت في دولتكم أربعة آلاف مصلى فلا يجار لي رجل واحد؟ فأطرق المهدي ثم رفع رأسه إليه وقال: قد أجرنا من أجرت يا معن. فقال: يا أمير المؤمنين إن الرجل ضعيف، فأمر له بثلاثين ألفا. فقال: إن جريمته عظيمة وإن جوائز الخلفاء على قدر جرائم الرعية. فأمر له بمائة ألف، فحملت بين يدي معن إلى ذلك الرجل، فقال له معن: خذ المال وادع لأمير المؤمنين وأصلح نيتك في المستقبل.

وقدم المهدي مرة البصرة فخرج ليصلي بالناس فجاء أعرابى فقال: يا أمير المؤمنين مر هؤلاء فلينتظرونى حتى أتوضأ - يعنى المؤذنين - فأمرهم بانتظاره، ووقف المهدي في المحراب لم يكبر حتى قيل له هذا لأعرابى قد جاء. فكبر، فتعجب الناس من سماحة أخلاقه وقدم أعرابى ومعه كتاب مختوم فجعل يقول: هذا كتاب أمير المؤمنين إلى، أين الرجل الّذي يقال له الربيع الحاجب؟ فأخذ الكتاب وجاء به إلى الخليفة وأوقف الأعرابي وفتح الكتاب فإذا هو قطعة أديم فيها كتابة ضعيفة، والأعرابي يزعم أن هذا خط الخليفة، فتبسم المهدي وقال: صدق الأعرابي، هذا خطى، إني خرجت يوما إلى الصيد فضعت عن الجيش وأقبل الليل فتعوذت بتعويذ رسول الله فرفع لي نار من بعيد فقصدتها فإذا هذا الشيخ وامرأته في خباء يوقدان نارا، فسلمت عليها فردا السلام وفرش لي كساء وسقاني مذقة من لبن مشوب بماء، فما شربت شيئا إلا وهي أطيب منه، ونمت نومة على تلك العباءة ما أذكر أنى نمت أحلى منها. فقام إلى شويهة له فذبحها فسمعت امرأته تقول له:

عمدت إلى مكسبك ومعيشة أولادك فذبحتها، هلكت نفسك وعيالك. فما التفت إليها، واستيقظت فاشتويت من لحم تلك الشويهة وقلت له: أعندك شيء أكتب لك في كتابا؟ فأتانى بهذه القطعة فكتبت له بعود من ذلك الرماد خمسمائة ألف، وإنما أردت خمسين ألفا، والله لأنفذنها له كلها ولو لم يكن في بيت المال سواها. فأمر له بخمسمائة ألف فقبضها الأعرابي واستمر مقيما في ذلك الموضع في طريق الحاج من ناحية الأنبار، فجعل يقرى الضيف ومن مرّ به من الناس، فعرف منزله بمنزل مضيف أمير المؤمنين المهدي.

<<  <  ج: ص:  >  >>